التدرج في تطبيق الشريعة...  المفهوم والرؤية

التدرج في تطبيق الشريعة... المفهوم والرؤية


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن السعي لضبط الأفراد والجماعات والمؤسسات وسائر النشاطات الإنسانية بمرجعية الوحي فيُحل الجميع ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله ويجتهدون في تقدير حكم ما سكت الوحي عنه وَفْق المصلحة والمفسدة والموازين الخاصة بكل باب: هو عين ما يعبَّر عنه بتطبيق أو تحكيم الشريعة.

ولما كان كثير من ذلك يحتاج إلى سلطان، كان طلب حيازة السلطان المُمَكِّن من تحكيم الشريعة واجباً بالتبعية لوجوب تحكيم هذه الشريعة الإلهية.

ولاعتبارات سياسية واجتماعية، وداخلية وخارجية، فإن حيازة هذا السلطان ظلت في أغلب الأحيان متعذرة على حَمَلَة المرجعية الإسلامية، بل صارت معرفة خصومهم بمكان حيازة السلطان من مشروعهم هي نفسها حجة استضعافهم والتسلط عليهم، وهو ما حدا ببعضهم إلى التخلي عن حيازة السلطان هدفاً لحَمَلَة المرجعية الإسلامية، وحتى صار عنده من السياسة ترك السياسة.

وبعد الثورات العربية توفر مجال صحي - وإن بصورة نسبية - لكي يعرض الإسلاميون مشروعهم الإصلاحي، ومنذ لحظة عرض المشروع وحتى توسد بعضهم للسلطة بالفعل مروراً بكل مراحل الوصول للسلطة من خطاب إعلامي ومسار انتخابي، كان السؤال الأبرز هو سؤال التدرج؟

ويطرح هذا السؤال عادة للإجابة عن سؤال آخر يتم طرحه وَفْق خلفيتين فكريتين:

الأولى: تسأل عن الطريق الذي سيسلكه الإسلاميون لتطبيق الشريعة، وهل سيحملون الناس عليها قسراً ولو لم يرضها الناس منقلبين على الديمقراطية التي كانت وسيلة توسدهم للسلطة؟

الثانية: تسأل عن الطريق الذي سيسلكه الإسلاميون لتطبيق الشـريعة وهل سيعطلون شريعة الله استسلاماً لضغوط الشعب وتسليماً بمقتضيات الديمقراطية رغم مصادمة هذه المقتضيات للمرجعية الإسلامية، وهو ما يخالف التقييد الذي على أساسه توسل الإسلاميون بالديمقراطية.

فالمجموعة الأولى تسأل عن صورة تحكيم الشـريعة خوفاً من أن يتم الانقلاب على الديمقراطية لحساب تحكيم الشريعة، والمجموعة الثانية تسأل عن صورة تحكيم الشـريعة خوفاً من الاستسلام للديمقراطية على حساب تحكيم الشريعة.

وهنا يجيب الإسلاميون - غالباً - بأنهم سيستعملون آليـة التـدرُّج ليبـرز سؤال التدرج ما هو وما هي حدوده ومعاييره ومجالاته؟

وتحاول هذه الورقة استكشاف بعض معالـم الجواب عن هذا السؤال، فأقول وبالله التوفيق:

أولاً: التدرج لغة: قال ابن فارس: «الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ الشَّيْءِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ»[1].

فلفظ (درج) دال على المشي والمضي.

وأما (درَّج) بالتشديد فقال في اللسان: «وَيُقَالُ: دَرَّجْتُ الْعَلِيلَ تَدْريجاً إِذا أَطعمته شَيْئاً قَلِيلاً، وَذَلِكَ إِذا نَقِهَ، حَتَّى يَتَدَرَّجَ إِلى غَايَةِ أَكله، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِلَّةِ، دَرَجَةً دَرَجَة»[2].

فهو دال على التأني في تناول الشيء أو بلوغه، و (تدرج) مُطَاوع دَرَجه وَإِلَيْهِ تقدم شَيْئاً فَشَيْئاً وَفِيه تصعد دَرَجَة دَرَجَة[3].

فجماع دلالات التدرج: أنه أَخْذ الأمر شيئاً فشيئاً لا دفعة واحدة.

ثانياً: أنواع التدرج:

التدرج ينقسم إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: التدرج في التشريع، ومعناه: أن يكون مقصود المشرِّع تشريع صورة معينة لكن يتوسل إليها بتشريع مؤقت قاصر عن الصورة المقصودة ثم يتدرج المشرِّع حتى يصل إلى صورة المنع التي كانت مقصودة له أول الأمر.

ومن أشهر أمثلته التدرج في تشريع الخمر على أربع مراحل.

النوع الثاني: التدرج في إبلاغ الصورة التشـريعية، ومعناه: بيان بعض الدين والحق والسكوت عن بيان بعضه إلى أن يحين وقته.

ومن أشهر أمثلته حديث معاذ المشهور لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم أهل كتاب.

النوع الثالث: التدرج في التنفيذ: وفيه تكون الصورة التشـريعية معلومة بينة ولكن يُسكت عن إنفاذها وتحقيق مقتضياتها.

ومن أشهر أمثلته ما وقع من الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ إلى الحُكْمِ بعدَ مظالِـمَ اقترفَهَا بعضُ الذينَ سبقُوهُ، فتدرَّجَ في الإصلاحِ ولَـمْ يتعجلْ في التغييرِ، فدخلَ عليه ولدُهُ عبدُ الملِكِ، فَقَالَ لَهُ: «يَا أَبَتِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَمْضِيَ لِـمَا تُرِيدُهُ مِنَ الْعَدْلِ؟ فَوَاللهِ! مَا كُنْتُ أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي ذَلِكَ».

قَالَ: «يَا بُنَيَّ ! إِني إِنَّمَا أُرَوِّضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِيَ الْأَمْرَ مِنَ الْعَدْلِ، فَأُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى أخرجَ مَعَهُ طَمَعاً مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا، فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ»[4].

ثالثاً: دواعي التدرج والتحديات الموجبة لاستعماله عند من يستعمله:

تدور دواعي التدرج على ثلاثة أشياء:

1 - العجز عن إنفاذ الشريعة والإلزام بها.

2 - القدرة على إنفاذ الشريعة، ولكن مع غلبة مفسدة ترك التدرُّج على مصلحة الإلزام بالشريعة.

3 - القدرة وقلة المفسدة، ولكن إرادة صاحب السلطان الرفق بالناس وتهيئتهم وحُسْن سياستهم.

هذه ثلاث علل يتم التعلُّل بها عند إرادة التدرج، والمقصود أنها علل ممكنة لدعوى التدرج، وقد صلحت بالفعل للقول بالتدرج في حالات معينة، وليس المقصود صلاحيتها للقول بجواز التدرج شرعاً من غير اعتبار للموازنة بين الدواعي والموانع في الحالات المخصوصة.

رابعاً: رؤية التيارات الإسلامية حول التدرج:

سأكتفي هنا لضيق المقام بذكر ما يمثل رأي جماعة الإخوان المسلمين في مصـر، ثم ما يمثل رأي الدعوة السلفية بالإسكندرية، ثم رأي الدكتور حازم أبو إسماعيل مرشح الرئاسة في مصر.

1 - الإخوان المسلمون:

• نشر الدكتور عطية فياض على موقع جماعة الإخوان المسلمين بحثاً حول التدرج، قرر فيه منع تدرج التشريع وجواز استعمال التدرج في البلاغ والتدرج في التطبيق والتنفيذ مع ذكر قواعد حاكمة[5].

• في تصريحات للدكتور محمد سعد الكتاتني أمين عام حزب الحرية والعدالة ورئيس مجلس الشعب بعد ذلك قال فيها: «في حال وصول الحزب لسُدَّة الحكم في البلاد؛ فلن يمنع الخمور بالمنازل أو الفنادق، ولن يحجب المواقع الإباحية، ولن يطبق الحدود، ولن يتدخل في تصرفات السائحين على الشواطئ».

ونفى الكتاتني سعي الجماعة لتطبيق الحدود فور وصولها للحكم، وأن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن هذه النقطة؛ مستشهداً بتصرُّف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما أوقف تطبيق الحدود في عام المجاعة[6].

2 - الدعوة السلفية بالإسكندرية:

يقول الشيخ ياسر برهامي: «... فالتدرج المبني على القدرة والعجز مشروع، فما عجزنا عنه لا نؤمر بتطبيقه، وما قدرنا عليه وجب علينا تطبيقه. والتدرج المبني على مراعاة المصلحة والمفسدة مشروع أيضاً، مثل: النهي الوارد عن قطع الأيدي في الغزو، وأما التدرج الراجع إلى أهواء الناس؛ فلا شك أنه تضييع للحق وللشرع»[7].

وينص الشيخ عبد المنعم الشحات على أن الفرق بين تصورهم للتدرج وتصور الإخوان يكمن في حرص الدعوة السلفية على بيان الحق كاملاً ثم تنفيذ ما يستطيعونه ويطيقه الناس، أما الإخوان - وَفْق تصوره - فلا يذكرون سوى أنهم لن يفعلوا كذا أو سيفعلون كذا فقط فيظن الناس أن هذا القدر المكتفى به هو الدين كله[8].

3 - المرشح الرئاسي في مصر الدكتور حازم أبو إسماعيل:

يفرق الدكتور بين التدرج الذي يحصره في التدرج التشريعي ويرى أنه انقطع بانقطاع الوحي، وبين الاستطاعة التي يذكر في حدها نفس ما يذكر في النوعين التاليين من التدرج، وإن كان يخص ما يؤذن بها بالضرورة فقط، فيقول: «التدرج غير حد الاستطاعة تماماً، ده حكم فقهي، وده حكم فقهي آخر تماماً، التدرج حرام، يعني إيه حرام؟ يعني خلاص الشرع اكتمل... تطبيق الشريعة فريضة الآن، مش تدرُّج، لأ هي فريضة بأكملها الآن.

كل ما في الأمر أنني عندما جئت أطبق وجدت الذين ستطبق عليهم الشريعة ليسوا سلسين، فعاينت أنني ربما - مثلاً - أجبرتهم على شيء فانتقضوا على الإسلام كله، فأصبح هذا يمثل بالنسبة للحاكم حالة ضرورة، اللي هو تخلف الاستطاعة»[9].

خامساً: المرتكزات الشرعية لتأصيل التدرج:

المراد بالمرتكزات هي الأسس والأصول الشرعية التي يتم بناء القول بالتدرج عليها، وهي أعم من الأدلة؛ إذ تشمل الأدلة وكلام أهل العلم.

المرتكزات ها هنا ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما فيه ممارسة للتدرج في الوحي أو عمل السلف، كما في دلالة خبر معاذ على التدرج في البيان، وتَرْك النبي صلى الله عليه وسلم للكعبة رفقاً بالناس ومراعاة للمفسدة المتوقعة، وما في ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعقوبة المنافقين من تدرج بترك إنفاذ الحكم فيهم للمفسدة الغالبة، وما في قصة يوسف - عليه السلام - وخبر النجاشي - رضي الله عنه - ودلالة ممارسة عمر بن عبد العزيز على التدرج في التنفيذ.

النوع الثاني: المرتكزات التي تُستعمَل كمناط يؤذن بالتدرج فتكون بمثابة العلل في قياس التدرج الذي يمارسه صاحب السلطة على التدرج الذي في الممارسة النبوية أو السلفية.

فمن معاقد الإجماع في هذه المسألة أن في التدرج خروجاً عن الأصل الذي هو وجوب التحاكم والتحكيم والاستجابة والإنفاذ لأمر الله ورسوله: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 46] .

يقولُ الدكتورُ القرضاويُّ تحت عنوان: «الأصلُ عدمُ المشاركةِ»: «لا ريبَ أنَّ الأصلَ في هذه القضيةِ ألَّا يُشاركَ المسلمُ، إلَّا في حكمٍ يستطيعُ فيه أن ينفذَ شرعَ اللهِ في ما يوكلُ إليه من مهامِ الولايةِ أو الوزارةِ، وألَّا يخالفَ أمرَ اللهِ - تعالى - ورسولِه»[10].

وهو ما يعني أن الخروج عن هذا الأصل بالتدرج سواء بالتشـريع - إن وجد من يجيزه - أو بالسكوت عن البلاغ أو بالسكوت عن الإنفاذ والإلزام، كل ذلك محوج إلى ما يؤذن به من الشريعة ويخرج المكلف عن رِبقَة الإثم الذي يحل به إن هو خالف أمر الله في ما ذكر.

بحيث يقول صاحب السلطة: سأتدرج ها هنا ولن أبلغ أو لن أنفذ وألزم بشرع الله لوجود علة شرعية يراعيها الشرع فتؤذن بهذا.

من هنا كان القول بالتدرج مؤسَّساً على المرتكزات التالية:

1 - نصوص الشرع الدالة على إيذان الإكراه بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.

2 - نصوص الشرع الدالة على إيذان حالة الضرورة بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.

3 - نصوص الشرع الدالة على أن الوجوب منوط بالاستطاعة والقدرة.

4 - نصوص الشرع الدالة على أن الحاجة تؤذن بارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات.

5 - نصوص الشرع وقواعده الدالة على الموازنة بين المصالح والمفاسد ودرء المفسدة الغالبة ولو بترك بعض الواجبات وفعل بعض المنهيات التي دونها في المفسدة.

6 - نصوص الشرع الدالة على الرفق بالناس[11].

النوع الثالث: نصوص بعض أهل العلم في تقرير جواز التدرج:

وأسوق لها مثالاً واحداً، وهو قول شيخ الإسلام: «فَأَمَّا إذَا كَانَ الْـمَأْمُورُ وَالْـمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْـمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ، وَإِمَّا لِظُلْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ... فَالْعَالِـمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ، فَإِذَا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوِ الْأُمَرَاءِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا؛ كَانَ بَيَانُهُ لِـمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بُعِثَ بِهِ شَيْئاً فَشَيْئاً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَلَـمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً... فَكَذَلِكَ الْـمُجَدِّدُ لِدِينِهِ، وَالْـمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ... وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْـمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ»[12].

سادساً: صفة التدرج المأذون فيه وَفْق رؤية الباحث:

من الجلي أنه من الناحية التنظيرية فإنا لا نعلم أحداً من التيارات الإسلامية يقول بالتدرج في التشريع؛ وإنما غاية كلامهم هو استعمال نوعَي التدرج (البلاغي - التنفيذي)، ولذلك فالذي سأبسطه هنا هو تأكيد بطلان استعمال التدرج التشريعي، مع ذكر صور خفية منه، ثم ذكر بعض الإشارات المهمة لضبط نوعي التدرج الباقيين، ولعلِّي ألخِّص رؤيتي حول هذه القضية في النقاط التالية:

1 - مدار البحث في التدرج بأنواعه إنما هو على قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى الأصل المقرر أن «الشَّـرِيعَة جَمِيعهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْـمَفْسَدَةَ الْـمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْـمُحَرَّمُ»[13]؛ حيث إن ترك بعض المأمور به وفعل بعض المنهي عنه هذا الترك الذي ينتج عن التدرج لا بد أن يكون لتحصيل مصلحة أعظم من مصلحة فعل وإنفاذ المأمور المعيَّن أو لدرء مفسدة أعظم من مفسدة فعل المنهي المعيَّن. ومتى اختل هذا الميزان - كأن يمكن البلاغ أو إنفاذ الشريعة والإلزام بها من غير مفسدة راجحة - لـم يجز التدرج، مع الإقرار بوجود مساحات للاجتهاد في تقرير غلبة المفسدة والمصلحة.

2 - استعمال التدرج في محاله الصحيحة هو نفسه تطبيق للشريعة.

3 - مما يُوسع دائرة الشريعة المطبقة من غير تدرج، الإلحاحُ على بيان الأساس الشرعي لمحاربة الفساد المالي والإداري وطلب صلاح البلاد والعباد وطلب النهوض والرقي بالأفراد والأمم ونحوه من المطالب المتفق على تحصيلها بين الإسلاميين وغيرهم فتكون المطالبة بها وتحصيلها تطبيق للشريعة لا يحوج إلى تدرج.

4 - التدرج التشريعي بمعنى أن يُشرِّع صاحب السلطة تشريعاً جديداً فيه تحليل ما حرم أو تحريم ما أحل الله بدعوى التدرج، حرام ليس في الشرع ما يُسوِّغه، والتشريع حق لله - عز وجل - لا يشركه فيه غيره، ولا يؤذن بارتكابه إلا إكراه محقَّق، وهذا لا يوجد في بابنا لإمكان الانحياز عن السلطة وتركها أصلاً، أو الانعزال عن الحقيبة التشريعية في هذا القطاع براءة لله - عز وجل - ومن الصور الخفية للتدرج التشريعي أن يأتي صاحب السلطة من الإسلاميين إلى جريمة حرَّمها الشرع وعاقب عليها بعقوبة معيَّنة بينما القانون يبيحها أو يخفف عقوبتها فيريد صاحب السلطة أن يضع لها عقوبة مدنية غير العقوبة المنصوصة في الشرع يزعم أنه يتدرج نحو العقوبة الشرعية، وهذا باطل وهو من منازعة الله في التشريع، ويؤدي إلى توطين مبدأ العقوبات المدنية واستبدالها بعقوبات الشـرع، وترك العلمانية صلعاء مقبحة للناس هكذا أحسن من تخفيفها بما يُضِل عن الوحي والشـرع، ومصلحة فرض عقوبة مدنية على الزانية - مثلاً - تنغمر في مفسدة التشريع من دون الله، وفي مفسدة ترقيق استبدال الشريعة في قلوب الناس.

5 - التدرج في البلاغ والتدرج في التنفيذ جائزان، تدل عليهما أدلة الشـرع العامة والخاصة، مع التنبيه إلى أنهما بمنزلة العفو والسكوت لا بمنزلة التحليل والتشـريع، ولذلك يقول شيخ الإسلام في حد هذا التدرج: «الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ».

6 - ترك الإلزام بالشريعة في زماننا والسكوت عن القوانين الوضعية وعدم السعي المباشر لتغييرها أكثره بسبب المفسدة المتوقَّعة من مثل هذا السعي سواء من نفرة داخلية أو ضغط دولي خارجي، ومراعاة غلبة المفسدة في ذلك نص عليها العلماء، فيقول شيخ الإسلام: «والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه. فمتى أمكن إقامتها مِن أمير لم يُحتَج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومِن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه»[14].

7 - إلا أن عدم السعي المباشر لا ينفي السعي التدريجي فما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه والميسور لا يسقط بالمعسور، واستعمال آليات الديمقراطية والتشريع البرلماني في ذلك جائز من باب الحاجة والضرورة على أن تكون صياغة ذلك هي المطالبة بإنفاذ شرع الله في ذلك تحاكماً للمادة الدستورية القاضية بمصدرية الشريعة، ولا يصاغ ذلك في صورة مدنية تُخضِع الشريعةَ فيه للتصويت من جانب المطالب مع جواز التصويت إن طرحها غيرنا.

8 - التأمل في كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة على حالها مراعاة لحال قريش، وكيف ترك عقوبة المنافقين لغلبة المفسدة، ثم حرصه على أن تُحدَّ المرأة المخزومية يدل على وجوب النظر في كل حكم شرعي بحسبه وألا يجعل التدرج وقانونه وأصوله قواعد كلية تطبَّق على فترة زمنية شاملة أو نظام حكم بأكمله؛ وإنما يجب على المجتهد النظر في كل حكم يريد أن يترك بلاغه أو إنفاذه بدعوى التدرج، وأن يكون هذا النظر في كل حكم على حدة، وأن يوزن كل حكم وما يقترن به من دواعٍ للتدرج وموانعٍ منه وزناً خاصاً ليُخرَج بحكم تبرأ الذمة به ويستحق صاحبه أجر الاجتهاد أصاب أم أخطأ. أما غير ذلك من الأقوال المطلقة في ترك إنفاذ شريعة الله أو إبلاغها بدعوى التدرج ومن غير اجتهاد خاص متأنٍّ؛ بل بعضها باجتهاد على الهواء لم تستغرق مدته سوى ما بين انتهاء سؤال المذيع التليفزيوني إلى بداية الإجابة... كل ذلك عبث بالشريعة وتلاعب بها.

9 - التدرج في البيان لا يعني النطق بالباطل، ولا يجوز ذلك إلا في حدود ضيقة وأكثر المأذون فيه هو السكوت. أما عبارات من نوع لن نمنع كذا، ولن نمنع كذا كما ورد في عبارة الدكتور الكتاتني فلا بد من اقترانها ببيان ما يعتقده من تحريم الله لذلك وأن هذا الترك للمنع إنما هو تنفيذي وليس إقراراً لحق.

10 - أن الحاجة للتدرُّج في حكم من الأحكام أو بعض الأحكام يحتاج حاجة ماسَّة إلى معرفة تامَّة بالواقع الذي تتشابك فيه العلاقات من شؤون اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية وخارجية؛ لأن هذه المعرفة هي وحدَها التي ستمكِّننا من تقدير المفاسد المترتبة على ترك التدرُّج أو على التدرُّج والحاجة إليه، لمعرفة ما إذا كان التدرُّج واجباً أو غير جائز. وهذا يبيِّن الضرورة القصوى لمعرفة العالم الشرعي بالواقع؛ لأن جزءاً من أحكامه لا يتم تصوُّر مسائلها إلا بإدراكٍ كاملٍ للواقع محلِّ الحكم[15].

11 - حد المفسدة الغالبة التي تؤذن بترك الإلزام بالشريعة، هو أن يؤدي الإلزام لنفرة شعبية تفسد أمور البلاد وتعظم فتنتها. أما إن كان مَن في السلطة غالباً مسيطراً فلن تحصل هذه النفرة سوى بصورة لا تؤثر ولا تعظم مفسدتها، فيجب عليه الإلزام بالشـريعة مع الرفق في هذا الإلزام وليس الرفق الذي يؤدي لترك الإلزام. يقول شيخ الإسلام: «فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وقال - تعالى - للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم في ما يكرهونه؛ ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه»[16].

:: مجلة البيان عدد 297 شهر جمادى الأولى 1433هـ

 


[1] معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (ت 395هـ): (2/275)، وانظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصـر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (ت 393هـ): (1/313).

وانظر: كتاب العين، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت170هـ): (6/77).

وتهذيب اللغة، لمحمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (ت 370هـ): (10/338).

[2] لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (ت 711هـ): (2/267).

[3] المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة: (ص277).

[4] صحيح: أخرجه الخلال في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص37) تحقيق الشيخ مشهور حسن والشيخ هشام السقا - ط/المكتب الإسلامي دار عمار (1990م).

 

[5]  http://www.ikhwanonline.com/new/Article.aspx?ArtID=94868&SecID=360

[6] في حواره مع جريدة الأهرام اليومية، في عددها الصادر صباح يوم (السبت) (10/ 12/ 2011 م).

[7] موقع أنا السلفي (1/ 12/ 2001 م)

http://anasalafy.com/play.php?catsmktba=31219

[8] حلقة على قناة الناس (يوتيوب)

http://www.youtube.com/watch?v=wcD_3W-F9ks

[9] درس في مسجد (يوتيوب).

http://www.youtube.com/watch?v=wwmLocZXC1k   

[10] من فقه الدولة في الإسلام، ص178.

[11] انظر تفصيل هذه الأدلة في بحثي: «واقع المسلمين بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين».

[12] انظر: مجموع الفتاوى: (20/57 - 61). وقد سقت كلام الشيخ تاماً ونصوصه في هذا كاملة في كتابي سابق الذكر.

[13] انظر: مجموع الفتاوى: (29/49).

[14] مجموع الفتاوى: (34 / 176).

[15] بتصرف من مقال قصير للشيخ الشريف حاتم العوني بعنوان: «تطبيق الأحكام بين التدرج والهجوم».

[16] مجموع الفتاوى: (28/364).

أعلى