المسار الصهيوني بعد الطوفان

وبالرغم من الغموض الذي تعمده الصهاينة، إلا أن الحقيقة التي اتضحت بعد ذلك عنهم، سواء صدرت من مفكريهم أو ممَّن يمارسون السياسة؛ أنّ ضم مزيد من الأراضي للدولة الصهيونية، نتج عنه خلل ديمغرافي خطير تمثَّل في تناقص متزايد لعدد اليهود ونسبتهم داخل الكيان بمقارنت


منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، وفي أعقاب طوفان الأقصى، تتزايد المؤشرات على أن دولة الاحتلال تسير في طريق جديد لم تَسْلكه من قبل، وتتخذ مسارًا أو منهجًا في قراراتها وأفعالها لم يكن معروفًا عنها في مواجهاتها العسكرية السابقة، وذلك منذ نشأة الدولة الصهيونية عام 1948م.

من هذه المؤشرات: الاستمرار في الحرب والقتال لأكثر من سنة، وهي التي اعتادت على ألا تستغرق حروبها العسكرية السابقة بضعة أيام أو أسابيع معدودة.

وثاني هذه المؤشرات، هو تحمُّلها الخسائر المتفاقمة من مئات القتلى من جنودها بحسب بياناتها، على الرغم من إخفائها الأرقام الحقيقية، والتي تم تقديرها بالآلاف وليس المئات، غير عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين من جنود جيش الاحتلال، فأصبح المجتمع الاسرائيلي قادرًا على استيعاب المزيد من الخسائر في الأرواح بعد أن كان يضغط بشدة إذا وقع قتيل صهيوني أو حتى جريح.

وبالإضافة إلى خسائر الأرواح، فإن الكيان بات أيضًا قادرًا على تحمُّل الخسائر الاقتصادية المتفاقمة، وتراجع تصنيف الدولة الصهيونية في المؤشرات الاقتصادية العالمية.

والأسئلة التي يطرحها ذلك التوجُّه الجديد، وما يتعلق منه بتفسير اختلاف سلوك الكيان في هذا الصراع عما سبقه، ترتبط بخلفيات ذلك التراجع وتلك التغيُّرات التي حدثت للسلوك السياسي والعسكري لدولة الكيان، وهل هي على مستوى تكتيكات القتال فقط؟ أم أن الأمر يتعدَّاه إلى مستوى الفكر التي تأسَّس عليه ذلك الكيان الصهيوني، ومِن ثَم الإستراتيجيات لتحقيق تلك الأفكار، والتي طالما سار عليها الكيان منذ قيام دولته؟

والأهم من ذلك كله هو: ما أثر تلك التغيرات على مستقبل الحرب في غزة بعد مرور عام من اندلاعها؟

لفهم التغيرات الجديدة التي حدثت للكيان، علينا تتبُّع الأفكار والإستراتيجيات التي سلكها الصهاينة المؤسِّسون منذ البدايات، ومِن ثَم مقارنتها بالوضع الحالي؛ وذلك لإدراك حجم ومساحة التغيرات التي طرأت على ذلك الكيان.

الصهيونية: الفكر والإستراتيجية

في عام 2007م، نشر الجيش الصهيوني وثيقة خطته الإستراتيجية، والتي أطلق عليها (غدعون)؛ حيث حددت تلك الوثيقة الأهداف الوطنية لدولة إسرائيل بأربعة أهداف؛ هي:

المحافظة على وجود دولة إسرائيل، والدفاع عن سلامتها الإقليمية، وعن أمن مواطنيها وسكانها.

المحافظة على قِيَم دولة إسرائيل وطابعها كدولة يهودية وديمقراطية، وكبيت للشعب اليهودي.

ضمان حصانة دولة إسرائيل الاجتماعية والاقتصادية.

تعزيز مكانة دولة إسرائيل الدولية والإقليمية، مع التطلع إلى سلام مع جيرانها.

ولكن ما حدود تلك الدولة المنتظرة في المخيلة الصهيونية؟

كان مصطلح فلسطين أو (أرض الميعاد) بالتعبير اليهودي مصطلحًا غير محدَّد بحدود من أرض أو بحر أو نهر، وبالرغم من نشأة مصطلح (الدولة الإسرائيلية الكبرى)، وما أُشيع في الأدبيات العربية من أن حدود هذه الدولة تبدأ من الفرات إلى النيل، وأن هذه الحدود بهذا الشكل موجودة في خريطة معلقة في الكنيست الصهيونية، إلا أن السياسيين في الدولة الصهيونية دأبوا على إنكار ذلك الموضوع، ووصفوه بأنه من وَلع العرب بنظرية المؤامرة.

ولكنَّ تسارع الأحداث في العقود التي أعقبت قيام الدولة اليهودية عام 1948م، وما تضمنته من حروب توسعية صهيونية نتج عنها قضم مزيد من الأراضي العربية، وما ردَّده بعض القادة العسكريين الصهاينة في هذا الشأن، ومنه ما صرَّح به أحد الزعماء الصهاينة التاريخيين «أرئيل شارون» بأن الحدود الصهيونية هي حيث تقف الدبابة الصهيونية؛ كشف ذلك كله النقاب عن نية توسُّعية صهيونية في تلك الأوقات لا تفصح عن خفاياها الحقيقية، وهل كانت لضمِّ مزيد من الأراضي إليها وإقامة مستوطنات عليها وجلب يهود جُدد إليها كجزء من مشروع إسرائيل الكبرى؟ أم هي ورقة أمنية تجبر بها الدولة الصهيونية العرب على عقد إذعان وخضوع لها واعتراف بالدولة اليهودية؟

وباختصار: هل الأحاديث الصهيونية عن إسرائيل الكبرى، فكرة متأصّلة يجري فرضها تدريجيًّا، أم هي لعبة تكتيكية؟

وبالرغم من الغموض الذي تعمده الصهاينة، إلا أن الحقيقة التي اتضحت بعد ذلك عنهم، سواء صدرت من مفكريهم أو ممَّن يمارسون السياسة؛ أنّ ضم مزيد من الأراضي للدولة الصهيونية، نتج عنه خلل ديمغرافي خطير تمثَّل في تناقص متزايد لعدد اليهود ونسبتهم داخل الكيان بمقارنتها بنسبة العرب في ذلك الكيان.

وزاد من تفاقم المشكلة، النموّ السكاني السريع والمذهل للفلسطينيين مقارنةً بالنمو السكاني اليهودي، وهنا ظهرت المشكلة الإستراتيجية الكبرى في تاريخ الدولة الصهيونية؛ لأنه بحسابات بسيطة فإنه في فترة زمنية وجيزة سيكون الشعب اليهودي أقلية في فلسطين مع وجود أغلبية عربية فلسطينية، سواء وُجِدُوا فيما يُعرَف بأراضي 48، أو في الضفة الغربية، أو قطاع غزة.

ولكن في تلك الأوقات سنحت الفرصة للكيان الصهيوني مرة أخرى مع بدء انهيار المنظومة السوفييتية في أوروبا الشرقية، والتي كانت تَحُول دون هجرة يهود أوروبا الشرقية وروسيا إلى الدولة الصهيونية، فجاءت التدفقات اليهودية المُهاجِرة التي حاولت تعديل الميزان الديمغرافي قليلاً لصالح اليهود، وتم ترحيل المشكلة إلى أجل أبعد قليلاً، وإن ظلت موجودة.

مع منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، بدا أن الدولة الصهيونية قد وصلت إلى مرحلة الاستقرار، خاصةً مع قدوم آلاف اليهود من الاتحاد السوفييتي، وانحسار المقاومة العربية للمشروع الصهيوني، وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان، وهو اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987م، والتي جعلت الذهن السياسي للدولة الصهيونية يُعيد التفكير بصورة جدية في حلّ لمشكلته الديموغرافية؛ فنشأ حلّ الفصل ومسألة الدولتين: دولة خالصة لليهود، وكيان غير محدد للفلسطينيين.

ومِن ثَمَّ كانت اتفاقية أوسلو التي أعلنت عن مولد إستراتيجية صهيونية جديدة تستبدل النظرية القديمة (الدولة الإسرائيلية الكبرى) لتحلَّ محلها (الدولة الإسرائيلية العظمى)، والتي تقوم على فكرة وجود دولة لليهود ذات حدود معروفة يتم التفاوض عليها لاحقًا مع الفلسطينيين؛ تُلبِّي الشروط التوراتية والتاريخية للشعب اليهودي، وتهيمن هذه الدولة على المنطقة من حولها بأدوات الهيمنة المختلفة؛ سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية، وغيرها.

وحمل همَّ تطبيق هذا المشروع اليسار الصهيوني، وعلى رأسه إسحاق رابين وشيمون بيريز، بينما انتقد اليمين الصهيوني هذا المشروع، ولكن سرعان ما اندمج فيه وسار في ركابه بعد أن بات واقعًا مفروضًا لا سبيل للفكاك منه، بعد سماحهم بقدوم ياسر عرفات إلى الأراضي المحتلة، وتكوين ما يُعرَف بالسلطة الفلسطينية.

وما لبث أن توقَّف مشروع أوسلو بعد تعثُّر مفاوضات كامب ديفيد بين إيهود باراك وعرفات برعاية أمريكية، ومِن ثَمَّ اندلعت الانتفاضة الثانية، والتي جعلت مشروع اليسار الصهيوني في مهبّ الريح، ولذلك ظهرت حاجة الصهيونية إلى مشروع إستراتيجي جديد يُحافظ على وجود الدولة اليهودية التي اجتمع ضدها تهديدان: تهديد القوة الفلسطينية القريبة من الدولة الصهيونية، وهي المقاومة الفلسطينية، والتي تمثلت في الانتفاضة وتحوُّلها التدريجي إلى انتفاضة مسلَّحة. والآخر هو التهديد الديمغرافي القديم.

وهنا جاء اليمين الصهيوني بزعامة «شارون» ليطرح مشروعًا إستراتيجيًّا جديدًا، يجمع فيه بين الطرح اليساري وهو الدولة الإسرائيلية العظمى، والطرح القديم وهو الدولة الإسرائيلية الكبرى، ومِن ثَمَّ جاء حزب كاديما الذي جمع القادة الوسط في كلٍّ من اليسار واليمين ليقود مشروعًا جديدًا يتلخَّص في دولة لليهود ذات حدود، مع السعي للفصل بين اليهود والعرب.

ولكنَّ هذا المشروع كان يحمل في طيّاته بشكل غير مُعلَن فكرة إلغاء حلّ الدولتين، والتي نصَّت عليها اتفاقية أوسلو، واستبدل ذلك بترك تحديد مستقبل الفلسطينيين للمفاوضات الدائمة واللانهائية، وقام بفصْل أكثر مناطق فلسطين تمردًا على المشروع الصهيوني، وهي قطاع غزة، ثم قام بالانسحاب منها وإبقائها في حالة حصار وعزلة، والتعامل عسكريًّا معها في إطار ضربات جوية وتغلغل بري محدود، كل بضع سنوات.

ثم جاء نتنياهو ليُكرِّس المشروع الصهيوني السابق، مع إضافة الاستيطان في الضفة الغربية، والذي تتباين سرعته وفق الظروف الدولية والداخلية، والذي يعني في حقيقته ضمّ الضفة إلى الدولة العبرية، وفي نفس الوقت البدء في تفعيل مشروع الدولة الصهيونية العظمى، بالمُضي في مسار التطبيع مع المحيط الإقليمي.

تزامَن تطور الفكرة الصهيونية مع تطبيق إستراتيجية أمنية لحماية تلك الفكرة.

وقد تحدث عن هذه الإستراتيجية واستطاع تجميعها أحد الكُتّاب الصهاينة، وهو ديفيد رودمان في مقالٍ له نُشِرَ عام 2001م، في دَوْرية (Middle East Review of International Affairs)، وبحسب الكاتب؛ تتضمَّن تلك الإستراتيجية ثمانية مفاهيم أمنية أساسية، عملت -بحسب رأيه- على توجيه السلوك والتفكير الإسرائيلي على مدى عمر الدولة، وهي: الجغرافيا، القوة البشرية، الكَمّ ضدّ الكيف، المناورة الهجومية، الردع، التهديدات التقليدية وغير التقليدية، الاعتماد على الذات، وأخيرًا مساندة القوى العظمى.

فهذه المفاهيم الثمانية تترتب على بعضها، فالجغرافيا وافتقاد الكيان الصهيوني للعمق الإستراتيجي يترتب عليها اعتماد المناورة الهجومية، ونقل القتال إلى أراضي الغير، وهكذا.

وأضاف بعضهم بعد ذلك مفاهيم أخرى كان قد اعتمدها بن غوريون -وهو أول رئيس لدولة الكيان-، مثل الحسم والإنذار المبكر، وأخيرًا تم ضمّ مفهوم الدفاع، وهو الذي أوصت به لجنة مريدور عام 2006م بعد حرب جنوب لبنان، ويختصّ مفهوم الدفاع بحماية الجبهة الداخلية، بواسطة نَصب بطاريات صواريخ وشبكات إنذار مبكّر، وشنّ هجمات شاملة أو محدودة، وغيرها من عناصر الدفاع الأرضي الجوي في مختلف أنحاء إسرائيل، من أجل التصدي لهجمات الصواريخ والقذائف الصاروخية.

ثم جاء الطوفان...

طوفان الأقصى وانهيار إستراتيجية الأمن الصهيونية

أبرز اجتياح المقاومة الفلسطينية لمستعمرات غلاف غزة في السابع من أكتوبر خلل الإستراتيجيات الأمنية التي اعتمدها الكيان لتطبيق الفكرة الصهيونية.

كان أبرز الخلل الذي أصاب الأمن الصهيوني هو انهيار نظرية الردع، والتي كانت تقوم على ضرورة تمتُّع الجيش الصهيوني بتفوُّق كيفيّ، سواء في الأسلحة والمعدات، أو التنظيم أو التدريب أو القيادة أو المعنويات، بحيث تكون هذه القوة العسكرية ذات قدرة رادعة، تجعل الخصم -سواء كان دولة أو مجموعات مسلحة- يُفكّر ألف مرة قبل الهجوم على دولة الكيان؛ من خلال رفع تكلفة ذلك الهجوم.

ولكن مجرد مبادأة المقاومة الفلسطينية بهجوم طوفان الأقصى أصاب تلك النظرية في مقتل؛ فهذا معناه أن المقاومة لم تكن ترتدع طوال السنين السابقة، وقد وصل انهيار نظرية الردع إلى أن جزءًا كبيرًا من المجتمع الصهيوني، بات مرعوبًا وخائفًا ومردوعًا، وهو ما تُرْجِمَ بإخلاء مستوطنات غلاف غزة والشمال، خاصةً مع احتجاز أكثر من 250 صهيونيًّا في قطاع غزة.

وكذلك انهار مفهوم الإنذار المبكر، والذي تمثل في عدة مستويات: الاستخبارات البشرية، والاعتماد المفرط على التكنولوجيا، والتنسيق بين الوحدات المتعددة والتقديرات الاستخباراتية.

وقد برز فشل الاستخبارات البشرية في عدم توفر أجهزة التجسس والرصد المتطورة، أيّ معلومات أو حتى إشعار بشأن التخطيط لهذه العملية، وهذا معناه عدم وجود معلومات استخباراتية لدى الكيان بشأن العملية.

ثم شكَّل الاعتماد المفرط على التكنولوجيا أحد عناصر الفشل الاستخباراتي، والتي تشمل الإنترنت والهواتف والشبكات، تحت إدارة وحدة 8200؛ حيث لم تتمكّن من اختراق كتائب القسام، وهي أكبر فصائل المقاومة الفلسطينية، فتجاهلت قدرات حماس في المحافظة على السرّية، بل أيضًا لم تتوقع أنها قادرة لمدة عامين على التخطيط، والتجهيز، والتنظيم، وشنّ عملية عسكرية واسعة النطاق من دون استخدام الإشارات الإلكترونية، بل تمكَّنت حماس في أثناء الهجوم من الدخول إلى فرع وحدة 8200 في غزة، والاستيلاء على الأقراص الصلبة لدى الوحدة، كما أسرت الضباط القائمين على هذه الأجهزة.

ونأتي لعنصر آخر من بين عناصر الأمن القومي الصهيوني التي أصابها الخلل، وهو الحسم، فعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني طوال تاريخه قد استخدم هذا العنصر، -وهو يعني إنهاء أيّ تهديد مُوجَّه للدولة الصهيونية بشكل نهائي-، وبالرغم من دأب رئيس الوزراء نتنياهو على استخدام جملة الحسم مع حماس في تصريحاته العلنية طوال عام بعد حرب الطوفان؛ إلا أن تصريحات رئيس أركان الجيش الصهيوني، والمتحدث باسم الجيش، كانت تُظهر بصفة دائمة أن المقاومة الفلسطينية لا يمكن أن يكون الصراع معها حاسمًا؛ لإدراك المؤسسة العسكرية أن الحديث عن الحسم يرتبط دائمًا بالجيوش النظامية، أما هنا في حرب الطوفان، فإن الحسم ليس له علاقة بجيش نظامي له قيادة مركزية وقوات تتمركز في مواقع معينة يمكن توجيه ضربة حاسمة إليها، وإنما يدور الحديث عن أسلوب حرب ضد مجموعات متفرقة، يصعب استهدافها واستئصالها بالكامل، وبضربة واحدة ساحقة.

حتى إن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، قد نقلت منذ أيام عن محللين إسرائيليين قولهم: إن تكتيكيات حرب العصابات التي تنتهجها حركة حماس في شمال غزة تجعل من الصعب هزيمتها. وذكرت الصحيفة أن قتل حركة حماس عقيدًا إسرائيليًّا -وهو الدرزي إحسان دقسة في شمال غزة- أكَّد أن الجناح العسكري للحركة (كتائب القسام) لا يزال يُدير حرب عصابات قوية، ولديه ما يكفي من المقاتلين والذخائر لتوريط الجيش الإسرائيلي في حرب بطيئة وطاحنة وغير قابلة لتحقيق انتصار حتى الآن؛ على حدّ قول الصحيفة.

ويقول المحلل الإسرائيلي مايكل ميلستين: «نحن نحتل الأراضي، ثم نخرج منها... إن هذا النوع من السلوك يعني أنك تجد نفسك في حرب لا نهاية لها».

وبذلك يمكننا تلخيص المأزق الإستراتيجي الذي وجدت فيه الدولة الصهيونية في عدة عناصر؛ من أهمها: انهيار معظم مفاهيم نظرية الأمن الصهيونية، وتلاشي الثقة لدى الجماهير الصهيونية في قياداتها، وإصابة إستراتيجية الكيان الصهيوني كفكرة وحدود بالاضطراب والبلبلة.

الكيان الجديد ومحاولة الترميم

مع هذا المأزق لدولة الكيان بعد الطوفان؛ حاول نتنياهو سلوك طريق جديد لم يعهد على الدولة الصهيونية من قبل منذ نشأتها، في محاولة لترميم هذا الانهيار الحادث.

وتضمَّنت إستراتيجية نتنياهو عدة عناصر؛ من أهمها:

ترميم نظرية الردع؛ وذلك من خلال شنّ حملة إبادة جماعية على أهل غزة، وجعلها عبرة لمن لا يعتبر؛ بحسب ما يظن. وصاحَبَها بعد ذلك، حملته على حزب الله في لبنان، وغارات شنّها على إيران وسوريا والعراق واليمن.

استعراض القدرات الاستخبارية والتكنولوجية، مثل ما حدث في عمليات اختراق أجهزة البيجر واللاسلكي لحزب الله، وبعدها اغتيال قياداته، ثم اختراق إيران واغتيال رئيسها، وبعدها قائد حماس إسماعيل هنية في طهران.

إشاعة جوّ الحرب النفسية لدى الشارع الصهيوني؛ لاستعادة ثقته في قياداته، وفي المشروع الصهيوني، وهذا الأمر أسهم في جعل غالبية المجتمع الصهيوني لا ينخرطون في احتجاجات أهالي الأسرى لدى المقاومة في غزة، بل وصل بهم الأمر إلا أنه يمكن أن يُتحمّل فقدهم بالكلية.

السماح أو الإيعاز لأقطاب الصهيونية الدينية من شركاء نتنياهو في الحكم بالحديث عن إعادة الاستيطان في غزة، بل إحياء مشروع إسرائيل الكبير.

ولا شك أن هذه الإجراءات التي اتخذها نتنياهو قد أعطت بعض الثمار والنتائج المرجوة، ولكنها لم تستطع الحسم؛ على الرغم من ادعائه أنه يسير في هذا الاتجاه.

ولكن، لماذا يُصِرّ نتنياهو على مواصلة القتال رغم أنه لا يستطيع الحسم؟

تُفسِّر ذلك الأمر عضو الكنيست الصهيوني ورئيسة لجنة الثقافة والتعليم به، «عينات ويلف» (وهي في نفس الوقت تعمل باحثة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى)؛ حيث ترى أن أكبر خطأ ارتكبته اسرائيل منذ السابع من أكتوبر هو إعلانها الحرب على حماس، بل كان يجب إعلان الحرب على أيديولوجية الفلسطينيين عمومًا، وهي رفضهم تقبُّل الصهيونية كأمر واقع، فحماس ليست فصيلًا منفصلًا عن الفلسطينيين، بل هي تعبير عن رفض الوجود اليهودي كدولة، وأن هناك دولة فلسطينية واحدة من النهر إلى البحر.

وأضافت: «السبب الوحيد الذي منع التقدم في السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو أن الفلسطينيين لم يتقبلوا أبدًا هزيمتهم، وبالتالي لم يمنحوا أنفسهم فرصة لبناء حياة جديدة، مع عدم إدراكهم أن الأمر قد انتهى».

فالفارق في نظرها بين اليابانيين والفلسطينيين، أن الشعب الياباني تقبَّل هزيمته في الحرب العالمية الثانية، ومِن ثَمَّ شرع في بناء حياة جديدة.

فيجب أن يفهم الفلسطينيون -بحسب رؤيتها- «أن الحرب قد انتهت، ليس فقط الحرب في غزة، بل انتهت حربهم ضد الصهيونية».

وهنا كما تقول الباحثة الإستراتيجية وعضو الكنيست، ولذلك فالمشكلة سوف تستمر طالما لم يدرك الفلسطينيون هذه الحقيقة، ولذلك لا يمكن البدء في التفاوض من أجل السلام طالما لم يتقبل الفلسطينيون هزيمتهم؛ كما تزعم الباحثة.

ولكنَّ صمود المقاومة النابعة من إيمان أبنائها بعدالة قضيتهم، ثم التفاف الشعب الفلسطيني حولهم؛ سيُفْسِد خطط نتنياهو ومن يدعمه؛ لأن الاحتلال ومكائده وإجرامه لن يستطيع كسر وتليين إرادتهم في تحرير أرضهم من دَنس الغاصب ومؤامراته.

أعلى