إن الأُمَّة تسير إلى الحق عبر طريقين: التشريع، والبيان. وإن صناعة البيان أشرف صناعة تحلَّى بها جيد النوع الإنساني؛ لاستمدادها من العقل، وحركات النفوس، ودلائل الوجود
قال الرشيد للأصمعي: ما أحسن ما مرَّ بك في تقويم اللسان؟
فأجاب: أوصى رجلٌ بعض بَنِيه فقال: «أصْلِحُوا ألسنتكم؛ فإن الرجل تنوبه النائبة فيتجمَّل فيها، فيستعير من أخيه وأبيه، ومن صديقه، ثوبَه، ولا يجد مَن يُعيره لسانه، وأنشد في ذلك:
كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَرَاهُ
لَهُ وَجْهٌ وَلَيْسَ لَهُ لِسَانُ
وَمَا حُسْنُ الرِّجَالِ لَهَا بِزَيْنٍ
إِذَا لَمْ يُسْعِدِ الْحُسْنَ الْبَيَانُ[1]
فالبيان من خصائص الحرية، ثم هو وسيلة من وسائل البلاغ المبين؛ وذلك لأن للبيان، بفنونه الكلامية والجمالية، دَوْره في توطيد دعائم الحق، وتبديد طاقات الضلال. ويرى المنصفون أنَّ مِن ظلمنا لأنفسنا أن نتخلَّى عن البيان للمنحرفين الذين سوف يهبطون به للدنايا، ثم يستغلونه في التمكين للانحراف.
ولقد عرف أعداؤنا كيف يسيطرون علينا بما اخترعوا من فنون الإغراء، ولم يكن هدفهم إخراجنا من الدِّين، فإنه مَن يخرج من دينه لا خيرَ فيه، بل إنهم يريدون صاحب دين، ولكن لا يفهم ذلك الدين، وإذا لم يفهمه، فلن يحسن في الدفاع عنه يومًا!
ولا نقصد بالبيان هنا أن يكون الداعية آخذًا بناصيته، وإنما نريد له فقهًا باللغة العربية، ثم دراية بتصاريف القول، ليتمكَّن من التعبير عن مكنون قلبه بالقول الثابت الواضح، مع قدرة على فَهْم مرامي الكلام ليظل ممسكًا بالزمام دائمًا. ولقد بلغ اهتمام الأُمَّة باللغة حدًّا حمل عمر -رضي الله عنه- على عزل «كاتب»؛ لأنه نصب المرفوع، ثم قال لعامله: «اعزله، واضربه سوطًا!»[2].
مخاطر الجهل باللغة
مدحتْ ليلى الأخيلية الحجّاج؛ فقال: يا غلام، اذهب إلى «فلان»، فقل له: يقطع لسانها. فأمَر المُكلَّف بحَجَّام، فقالت ليلى: ثكلتك أُمّك! إنما أمرك أن تقطع لساني بالصِّلة.[3]
فلولا تبصُّر «الأخيلية» بأنحاء الكلام، ومذاهب العُرْف في القول، ولولا فِقْهها بمعاني الخطاب لوَقَع بها ما أراده ذلك الأحمق الجاهل بلغة القرآن، وهكذا أحيا الله -تعالى- نفسًا بسبب الوعي بقواعد اللغة وتصاريفها.
ولقد كان جهل المستشرقين بمرامي البيان العربي سببًا في أحكام جائرة أطلقوها بلا حساب. جاء في كتاب «العودة إلى الإسلام»[4]، ناعيًا على مَن لم يفهم الفرق بين تدوين السُّنة وكتابتها، فأوقعه الجهل في شرّ أعماله: «السُّنة لم تُدوَّن إلا بعد تكامل الفقه الإسلامي. فهي تابعة -زعموا- للأحكام الفقهية التي كانت اجتهادات للعلماء والتي اعتمدت على العرف. وهذا القول مُؤسَّس على زَعْم مَن زعم أن تدوين السنة كان في غضون القرن الثاني الهجري، مع أن المقصود بالتدوين «تدوين الحديث» كتابته مبوبًا ومنسَّقًا وجمعه بين دفَّتَيْن، وهذا ما تأخَّر لأوائل القرن الثاني. أما تقييد الحديث فقد كان على عهده صلى الله عليه وسلم ، باستثناء السنوات الأولى؛ حيث منع منها مُؤقتًا؛ خشيةَ التباسه بالقرآن، حتى إذا برع الصحابة في معرفة الفرق بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث سَمح لهم أن يكتبوا».
وهنا تظهر خطورة مَن يتجرأ على استنباط أحكام بتراء، بينما هو من اللغة في المكان القصي. قال أحد المستشرقين للملك فيصل -رحمه الله-: لقد قرأت القرآن فلم أجد فيه ذلك الإعجاز الذي حدَّثتنا عنه. فقال له الملك: إنك قرأته بلُغَتك، فكان ما كان. فتعلم الرجل اللغة العربية، ثم قرأ القرآن، فتذوَّق وعرف، ثم اعترف!
ولا نُكلِّف الدُّعاة من أمرهم عسرًا حين ندعوهم إلى أخذ أنفسهم بجمال البيان، فحُسْن التعبير داخل في نسيج وظيفتهم، ألم يقل الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]. ومن الحكمة أن تقول الكلمة في زمانها المناسب. ومن الحسن أن تكون أديبًا، جميل الأسلوب، لتنسجم في نفس الوقت مع هذا الجمال المنبثّ في أرجاء الكون، إلى جانب ما يثمر التبحُّر في اللغة من قدرة على حُسْن التخلُّص وتلافي الحرج.
ولا نقصد أيضًا ذلك التقعر في مسائل النحو، على جهة الكلف بالجري وراء الشروح، والولع بالخلاف، وإنما مرادنا: القول الطيب، وطيب الكلام صدق في النوايا، وسلامة في التعبير، ورقة في الأسلوب. هو بذلك صورة من أعلى صور الهداية، على ما يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج: ٢٤].
شرف البيان
إن الأُمَّة تسير إلى الحق عبر طريقين: التشريع، والبيان. وإن صناعة البيان أشرف صناعة تحلَّى بها جيد النوع الإنساني؛ لاستمدادها من العقل، وحركات النفوس، ودلائل الوجود.
فالعقل الذي امتاز به الإنسان، وإن كان له دَخْل في كلّ شيء، لكنَّ صلته بالبيان أقوى؛ فقد تحيا الصناعة البارعة في متوسط العقول، أما البيان الجيد فلا يحيا إلا في الأمم الراقية، إنه يستمد من الغيب أكثر مما يستمد من الشهادة.
وإن كان بعض كبار الدعوة يستنكرون البيان ويعدّونه شقشقة، ويرمون صاحبه بالجهل، ولا يستحون إذا نطقوا بهذا الخزي، ورموا لغة نبيهم بذلك، وفيها سرّ كتابهم، وفخار أئمتهم، وعليها وحدها حياة دينهم، تستدل به العقول على الله، وترفع به الحجب عن الحق، ويكشف عن وجه الصواب إذا أحاط به الباطل، وتنشر الحكمة ويقام العدل. ولكن مَن جهل شيئًا عاداه، ونعوذ بالله أن نكون من الجاهلين[5].
إن البيان لازمة من لوازم الإنسان على ما يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﭾ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 3- 4]، فلم يعطف البيان على الإنسان؛ لأن العطف يقتضي التغايُر، والحال أن البيان والإنسان وجهان لعملة واحدة، وكأنما خلق الله -تعالى- الإنسان يوم خلق البيان، أو خلق البيان في شخص الإنسان، فلا يَفترقان.
وعن أثر الكلمة ودورها في تحريك الإرادة لتعمل، يقول ابن الأثير: «ألا ترى أن حقيقة قولنا: «زيد أسد» هو قولنا: «زيد شجاع»! لكنّ الفرق بين القولين في التصوير والتخييل، وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع. لأن قولنا «زيد شجاع» لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جريء مقدام، فإذا قلنا: «زيد أسد» يُخيّل عند ذلك صورة الأسد وهيئته، وما عنده من البطش والقوة ودقّ الفرائس، وهذا لا نزاع فيه. وأعجب ما في العبارة المجازية، أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل، ويشجع بها الجبان، ويحلم بها الطائش المتسرع، ويجسد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أقاق وندم على ما كان منه من بذل ومال، أو ترك عقوبة، أو إقدام على أمر مهول، وهذا هو فحوى السحر الحلال، المستغنى عن إلقاء العصي والحبال»[6].
وللدكتور محمد سعاد جلال[7]، رأي يردّ به على بعض المفسرين الذين يُغْفِلون ما للتركيب الجميل من تأثير على النفوس، شاغلين أنفسهم بالتخريجات النحوية العويصة، غافلين عما في الجملة القرآنية من بيان يأسر الإنسان: «قلنا لكم: إن الصِّيغ القرآنية التي تبدو مصادمة لقواعد النحو والتصريف، كقول الله تعالى: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾ [طه: 23]؛ حيث وصف الجمع بلفظ المفرد، وكقوله تعالى: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: ١١٧]؛ فأفرد {تَشْقَى}، والأصل المستحق في تركيب الكلام «فتشقيا»... مما لم يتعرَّض الأقدمون لبيان سرّه وتأصيل قواعده؛ حيث كان يتعيّن عليهم ألَّا يتركوا مثل هذه الظواهر الموجودة في القرآن -بل وفي بعض كلام العرب الأقحاح- بغير أن ينصبوا أنفسهم لتعمق درسها، وتحليلها وتأصيلها.
والذي نراه في هذا الموضوع هو أن التجانس «الموسيقى» عنصر من عناصر بناء اللغة العربية في تركيب جُملها، ورعاية توافق اللحن بين الجملة والجملة، وأن هذا التجانس من تمام البلاغة في وضع هذه اللغة. من حيث إن وظيفة البلاغة إنما هي التأثير في نفس السامع تأثيرًا يتأدَّى به إلى اقتناع نفسه وانقياد وجدانه بالحكم الذي وقع الكلام البليغ تعبيرًا عنه.
وعنصر الموسيقى في الكلام يشارك التعبير البليغ حين يُداخل تراكيب نَظْمه، وهذا هو التأثير المقصود الأساسي بسوق الكلام، وإجرائه مجرى البلاغة. و«الجمال» أقدر من «المنطق»[8] في تطويع النفوس لما يُراد لها من المقاصد، والموسيقى من أظهر وسائط الجمال التي تتلقّى الأنفس حُكمها بالبشاشة والتسليم.
ومِن ثَم كانت عناية القرآن الفائقة المعجزة بإقامة نَظْمه على رعاية توافق الألفاظ والتراكيب البيانية، وتغليب حكم البلاغة عند التعارض مع أحكام النحو والصرف، وعلى تقديم حكم البلاغة، وعدم المبالاة بنداء النحو والصرف، ما دام المعنى يبدو واضحًا للمخاطب، وهو المقصود الأصلي الذي لا يحتمل الخلل. وما دام الخلاف وقع في الوسيلة نحوًا، وصرفًا أو بلاغة، فيترجَّح منها على غيره ما كان أقرب لخدمة المعنى، فلا بأس عندئذ من وصف الجمع بالمفرد؛ لأن المعنى، وهو الأصل، واضح.
ولا بأس في خطاب الواحد في مقام الاثنين كذلك إذا وفَّر ذلك التأليف عنصر الموسيقى للكلام. ثم إني وجدت بعض الكتب الإسلامية الحركية التربوية قد فَصَلت بلا مُبرِّر بين النثر والشعر، وتجنَّبت استعمال مئات الأبيات والقطع من شعر الرقائق، أو شعر الحماسة، أو شعر العقيدة والفكرة، مما قاله ثقات الشعراء القدامى والمحدثين، وشعراء هذه الدعوة المباركة[9]. والمرء ربما «يسمع المعنى نثرًا، فلا يهتزّ له عطفًا، ولا يهيج له طربًا، فإذا حُوِّل نظمًا فرح الحزين، وحرَّك الرزين، وقرَّب من الأمل البعيد».
وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت، يُراد منه إضافة صناعة من طرب النفس، إلى صناعة من طرب الفكر[10]، لهذا مِلْنا إلى إيراد الأشعار، والاستعانة بها في هذه المواعظ، قاصدين أن نضيف إلى المعاني التي يستحسنها فكر الداعية نوعًا من استحسان نفسه لها، ليرسخ المعنى، ويطول تأمله وتذكُّره، وليس أدلّ على أهمية الشعر في نصرة العقائد وترويجها مما كان له من دور في إسعاف أهل البدع وترويجها لدى العوام، في مضادّة لمساعي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته عندما انبروا لتفنيدها ودَمْغها بحجج السُّنة الغراء.
ولا ريب أن منطق ابن تيمية القوي أثَّر أثره، ولكنّ جفاف المنطق لا يقوى على مقاومة نضرة الشعر وفتنته، كما يقول شاعر الإسلام محمد إقبال[11]، وهو كما قال؛ فإن الذي قلَّل من سريان كلام ابن تيمية في أوساط العامة هو ما كان عليه أئمة الضلال الداعين إلى البدع من روعة البيان، ورقة الشعر، وتمكّنهم فيه، حتى سحروا قلوب الناس بشعرهم من حيث لا يشعرون، ولم يتهيَّأ لابن تيمية شاعر مُبدِع يسانده.
إن للشعر هذه القابلية في إسعاف مَن يستعمله وتزيين الخطأ أو الصواب، ونصرة الحق أو الباطل على حدّ سواء، في كل شؤون الفكر وحقائق الحياة؛ إذ النفس الإنسانية تحب الجمال، والشعر جمال كله. وبإمكانه أن يزيد الحق والصواب نضرةَ زهاء ورونقًا ووضوحًا، أو أن يُخفي ما يشين صفحة الباطل والخطأ والوهم من خروق ونتوء واعوجاج، فينطلي عيبه بالتزويق، ولا يتخلص من أَسْر الشعر وتأثيره إلا قلب عامر بالإيمان عمرانًا كافيًا.
إن هذه الظاهرة الشعرية هي التي دفعتني إلى الاستعانة بالشعر في هذه المواعظ. ولئن كان يُقلّل من تذوق بعض الدعاة لهذا الشعر العربي الرصين الواضح الذي اخترته، ما أصابهم من هذا الذي أصاب عموم الجيل العربي الجديد من ضعف الحماسة الأدبية؛ فإني أرجو أن يكون مقالي هذا محاولة للارتفاع بهذا الذوق لدى الدعاة، ولئن كان باعي في الشعر قصيرًا، فإن في إنتاج الثقات غنًى وبركةً، ولئن كان أكثره منشورًا من قبل، فإن في هذا الانتقاء تقويةً وحفظًا وترويجًا وبعثًا.
[1] حياة الحيوان الكبرى، للدميري، ٢/٤٨٤.
[2] عمدة الكتاب، لأبي جعفر النحاس، ١/٣٣٧.
[3] المستطرف في كل فن مستطرف، لشهاب الدين الأبشيهي، ١/٥٠.
[4] للدكتور محمد سعيد البوطي، ص147.
[5] الدعوة والدعاة: للشيخ علي الزنكلوني.
[6] المثل السائر لابن الأثير، ص111.
[7] عالم أصولي فقيه، مصري، رحمه الله.
[8] جريدة القصر، القسم العراقي: 1/202.
[9] المنطلق: ص 27 وما بعدها.
[10] وحي القلم: للرافعي.
[11] محمد إقبال لعبد الوهاب عزام، ص52.