• - الموافق2025/12/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جنوب اليمن أزمة الشرعية والسيادة

هل تقود سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على جنوب اليمن، بدعم خارجي وتراجع الدور الأمريكي، إلى تفكيك الدولة اليمنية وإعادة رسم موازين الأمن والنفوذ في البحر الأحمر على حساب السيادة والوحدة الوطنية؟


شهدت الساحة الجنوبية لليمن في الأسابيع الأخيرة تحوُّلًا إستراتيجيًّا دراماتيكيًّا يعكس مدى هشاشة الدولة اليمنية واستمرار محاولات تقويض أدواتها مِن قِبَل فاعلين خارجيين؛ حيث نفَّذ المجلس الانتقالي الجنوبي عملية عسكرية واسعة استهدفت السيطرة على مدينة عدن، ومناطق حضرموت والمهرة، بالإضافة إلى المؤسسات الحكومية المركزية.

والسيطرة على حضرموت ليست مجرد مكسب محلي؛ فهذه المحافظة -التي تُمثِّل نحو ستة وثلاثين في المئة من مساحة اليمن-، تضم أكبر الاحتياطات النفطية، إضافة إلى موانئ حيوية مثل المكلا والشحر ومنشأة الضبة لتصدير النفط. ووفق توصيف صحيفة الغارديان، فإن سيطرة المجلس الانتقالي على حضرموت والمهرة تعني، من الناحية العملية، إحكام قبضته على كامل الرقعة الجغرافية التي كانت تُشكِّل دولة جنوب اليمن السابقة.

وهذا تحرُّك أفضَى إلى تراجُع الدور الوظيفي للحكومة اليمنية في تلك المناطق، ورَفع عَلَم المجلس الانتقالي الجنوبي على مباني الدولة، في خطوةٍ شكَّلت تحديًا مباشرًا لفكرة الوحدة الوطنية، وأعادت إنتاج الفوضى في المشهد السياسي اليمني.

وقد وصف تقرير أوردته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية هذا التحرُّك بأنه بمثابة تكريس للفوضى السياسية، وتثبيت للنفوذ العسكري لمليشيات مسلحة بديلة عن الدولة، وهو نموذج واضح على كيفية تحويل مفهوم مكافحة «الإرهاب» إلى غطاء لاستحداث كيانات موازية تُضْعِف مؤسسات الدولة، وفتح المجال أمام تقويض الأمن القومي والبحري العربي على طول سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

ويشير مراقبون إلى أن العملية الأخيرة لم تُنَفَّذ بمعزل عن سياسات تراكمية مدروسة مِن قِبَل أطراف خارجية سعت إلى بناء قوة مسلحة مستقلة، مدعومة اقتصاديًّا وسياسيًّا، لتكون بديلًا فِعْليًّا عن الدولة، بما يُتيح لها السيطرة على الموانئ والممرات الملاحية الإستراتيجية وآبار النفط والغاز، وبالتالي تعزيز شبكات تهريب واسعة تسمح لها بالهيمنة على مصادر الطاقة والأمن البحري في المنطقة.

المجلس الانتقالي الجنوبي

تعود جذور المجلس الانتقالي الجنوبي إلى مرحلة مبكرة من الصراع اليمني؛ حيث تأسَّس ككيان سياسي وعسكري في أبريل 2017م، واتخذ من الخارج مقرًّا له في مسعًى لتحقيق فكرة الانفصال الفعلي للجنوب، مستفيدًا من ضعف الحكومة اليمنية، وفشل النُّخَب المحلية في تقديم إدارة فعَّالة، وهو ما ساهم في إضعاف السلطة المركزية وخَلْق فراغ إستراتيجي مكَّن المجلس الانتقالي مِن فرض سيطرته على موارد جنوب اليمن.

ويشير تحليل نشرته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية إلى أن المجلس لم يقتصر نشاطه على اليمن، بل امتد دوره إلى السودان ضمن إستراتيجية تدعمها أطرف خارجية، تهدف إلى تعزيز نفوذها الإقليمي؛ عبر خَلْق كيانات مسلحة وخاضعة لها في مواقع جغرافية حسَّاسة، تمنح الفاعلين المحليين قدرة غير مباشرة على التأثير في شبكات الإمداد والتهريب التي تربط بين اليمن وشرق إفريقيا، بما في ذلك السودان، بما يُتيح لها التحكُّم في خطوط الملاحة والتجارة وفَرْض شروطها على الأمن البحري الإقليمي دون الحاجة إلى تنسيق مع حكومات الدول المعنية، وهو ما يَعْكس إستراتيجية تراكمية متكاملة تستغل الصراعات الداخلية لتحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية.

تقويض جهود الحفاظ على الأمن والاستقرار

أما الموقف السعودي الذي ندَّد بتحرُّكات المجلس الانتقالي الجنوبي، مستمرًّا في دعم الحكومة اليمنية الشرعية، ومؤكدًا على ضرورة الحفاظ على وحدة اليمن، وبحسب ما ورد في صحيفة الغارديان البريطانية؛ فإن ما يصل إلى عشرين ألف عنصر من قوات مدعومة سعوديًّا بدأوا بالاحتشاد على الحدود اليمنية، في رسالة ضغط مباشرة على المجلس الانتقالي لسَحْب قواته من المناطق التي سيطر عليها مؤخرًا، مع تلويح غير مسبوق بإمكانية تنفيذ ضربات جوية ضد مواقع تابعة له.

وهذا يؤكد أن التوتر بين دول الإقليم أصبح واضحًا؛ حيث إن بُنيَ واقعٌ مواز في الجنوب يُقوِّض جهود السعودية في الحفاظ على الأمن والاستقرار على الحدود الجنوبية للمملكة، وهو أمرٌ أبرزته صحيفة «معاريف» الصهيونية، التي أشارت إلى أن دعم مشروع انفصال المجلس الانتقالي في الجنوب شكَّل تحديًا مباشرًا لأمن الخليج العربي البحري والسياسي، لذلك يمكن قراءة هذه الخطوة على أنها بداية فراغ جيوبوليتيكي يفتح الباب أمام الدولة العبرية لتحقيق مصالح بحرية وإستراتيجية في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب دون مواجهة مباشرة، وذلك من خلال اتصالات غير الرسمية مع المجلس الانتقالي الجنوبي، كما ورد في تقرير نشرته الصحيفة، ما يُتيح لها مراقبة خطوط الملاحة وتأمين مصالحها الاقتصادية بعيدًا عن الانخراط في مواجهة مباشرة مع قوى المنطقة.

في هذا السياق، يشير تحليل مجلة «فورين بوليسي» إلى أن المجلس الانتقالي الجنوبي يُمثّل فرصة للدولة العبرية لتعزيز قدراتها البحرية والاستخباراتية عبر الشراكة مع كيانات جنوبية غير مُعتَرف بها دوليًّا، وهو أمرٌ لم يكن ممكنًا قبل تفكك الدولة اليمنية وتحوُّل الجنوب إلى فضاء خاضع للنفوذ الخارجي.

تعزيز النفوذ الخارجي على حساب السيادة الوطنية

تتزامن هذه التحولات مع تجاهل الولايات المتحدة للتدخل الفعلي في اليمن، مع تركيزها الضيِّق على ما تصفه بمحاربة «الإرهاب»، وهو موقف أشار إليه تقرير أوردته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، مشيرًا إلى أن الصمت الأمريكي وغياب إستراتيجية شاملة لإنهاء الصراع مَنَح البعض الحرية لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي في الجنوب، واستغلال ضعف الحكومة اليمنية لتحقيق أهدافها، بما في ذلك السيطرة على آبار النفط وممرات الملاحة البحرية الإستراتيجية، وهو ما يعكس سياسة تراكمية واضحة لزيادة النفوذ على حساب السيادة الوطنية.

ويكشف تحليل أوردته صحيفة معاريف أن المجلس الانتقالي استغل خطاب «مكافحة الإرهاب» كغطاء لتبرير توسُّع سيطرته، مستهدفًا تنظيمات مثل القاعدة في أبين وحضرموت، لكنّه في الواقع حوَّل هذه العمليات إلى أداة تصفية؛ استهدف خلالها الهوية الإسلامية للجنوب اليمني، ولَاحَق رموزًا ودعاةً وناشطين محسوبين على الحكومة الشرعية اليمنية؛ لتعزيز سُلطته على الموارد والموانئ والمناطق النفطية.

بينما الحكومة الشرعية اليمنية، -رغم ضعفها الإداري-، لم تفقد شرعيتها، وكانت تحاول الحفاظ على التوازن بين مواجهة الحوثيين وحماية المصالح الوطنية؛ إلا أن تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم خارجيًّا أضْعَف هذه الجهود، وفرَّغها من أيّ قدرة حقيقية على التحكُّم في الجنوب، وهو ما سلَّط الضوء على هشاشة الدولة اليمنية أمام التدخل الخارجي.

إعادة تشكيل قواعد القوة في البحر الأحمر

أما على الصعيد الإقليمي؛ فإن التحركات الأخيرة للمجلس الانتقالي تُعيد تشكيل قواعد القوة في البحر الأحمر؛ حيث أصبح التأثير والنفوذ الخارجي يُسيطر عمليًّا على نقاط إستراتيجية تشمل عدن، المكلا، المهرة، وجزر سقطرى، ما يُتيح مُراقبة الملاحة البحرية الدولية، بما في ذلك السفن المتَّجهة إلى قناة السويس.

ومع ذلك، يشير تحليل نشرته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية إلى أنّ هذه السيطرة لا تعني استقرارًا طويل الأمد، بل إنَّها تُحوّل الجنوب إلى قاعدة نفوذ خارجي على حساب الأمن البحري العربي، وهو ما قد يُؤدّي إلى توترات مستقبلية مع أيّ قوة تحاول الحفاظ على سيادة بحرية عربية مُوحَّدة.

وبالنظر إلى العلاقة مع الدولة العبرية، وبحسب ما تداولته تقارير إعلامية صهيونية، من بينها ما ورد في صحيفة «معاريف وتايمز أوف إسرائيل» خلال الأشهر الماضية، فإن هناك اهتمامًا متزايدًا داخل الدوائر الأمنية الصهيونية بتطوُّرات جنوب اليمن، لا من باب دعم مشروع انفصالي، بل من زاوية ضمان أمن الممرات البحرية الحيوية، وعلى رأسها باب المندب.

هذه التقارير تتحدَّث عن اتصالات غير مباشرة واستطلاعية، دون أيّ إعلان رسمي عن علاقات أو تفاهمات سياسية، وهو ما يَضعها في إطار التقدير الاستخباري لا التحالف المُعْلَن. لذلك يمكن التأكيد على أن المجلس الانتقالي، عبر توجيه سياساته المرتبطة بداعميه ومحاولته البحث عن شرعية دولية، سيفتح باب التعاون الأمني مع الدولة العبرية لمراقبة مسارات الملاحة البحرية والتدخل الإستراتيجي في البحر الأحمر، دون أن تكون هناك حاجة لتورُّط مباشر في صراع مسلح.

ويشير التقرير أيضًا إلى أنّ أيّ تحرُّك رسمي للدولة العبرية سيكون مرتبطًا بالوضع الأمني على الأرض، ويعكس استغلالها للفراغ الناشئ عن تفكك الدولة اليمنية، بما يضمن مصالحها البحرية والتجارية دون مواجهة مفتوحة مع القوى الإقليمية.

وتكشف التطورات الأخيرة عن هشاشة التحالفات الإقليمية؛ بينما يلتزم الأمريكيون بسياسة الحد الأدنى من التدخُّل، مُركِّزين على محاربة الإرهاب وترك النزاع اليمني للفاعلين المحليين والإقليميين، وهو ما أشار إليه تقرير أوردته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية. وفي الوقت ذاته، يُمثّل المجلس الانتقالي الجنوبي أداة لتحقيق أهداف إستراتيجية خارجية ضمن فراغ صنعته الحرب اليمنية الطويلة، وهو ما يَعْكس تَحوُّل الجنوب إلى ساحة نفوذ خارجي.

في ضوء هذه التحولات، يظل الجنوب اليمني ميدانًا يتقاطع فيه النفوذ بين مصالح المملكة العربية السعودية في استقرار اليمن، وكذلك الحفاظ على أَمْن البحر الأحمر كجزء من أمنها القومي مقابل محاولات خارجية لتهميش الحكومة الشرعية في اليمن وفتح الباب أمام سيناريوهات التقسيم والفوضى لخدمة الأمن الصهيوني وتحويل البحر الأحمر لمنطقة نفوذ صهيونية كاملة من باب المندب وحتى ميناء «إيلات».

ووفق هذا المسار، يبدو أن اليمن مُتَّجِه نحو صيغة يمكن وَصْفها بـ«اثنين ونصف يَمَن»؛ شمال تهيمن عليه جماعة الحوثي كسلطة أيديولوجية مُسلَّحة، وجنوب يتماسك تدريجيًّا حول مجلس انتقالي منفصل، ومنطقة وُسْطَى هشَّة يُديرها مجلس قيادة رئاسي يفتقر إلى أدوات الاستقرار باستثناء الشرعية الدولية.

هذا الواقع لا يُهدِّد فقط فكرة الدولة اليمنية المُوحَّدة، بل يُعيد تشكيل معادلات الأمن الإقليمي في البحر الأحمر، ويمنح الفاعلين من الخارج مساحة أوسع للتأثير، في مشهدٍ قد يكون أكثر استقرارًا على المدى القصير، لكنَّه يَحْمل في طياته بذور صراعات إقليمية أعمق على المدى البعيد.

 

 

أعلى