كيف تغيّر الحرب الروسية على أوكرانيا موازين القوة والتحالفات الدولية، وما السيناريوهات المحتملة لمستقبل أوكرانيا وعلاقات روسيا والولايات المتحدة وأوروبا والصين في ظل الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية الحالية؟
دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا منعطفًا إستراتيجيًّا، أو مرحلة
«كسر
العظم»؛
وفقًا للتعبير الشائع.
لم تَعُد الدول الكبرى مَعْنِيَّة بالتفاصيل، مِن مناورات تفاوضية أو تقدُّمات
عسكرية هنا وهناك.
تتحرَّك روسيا والولايات المتحدة وأوروبا والصين في المرحلة الحالية دون مراعاة
لألاعيب السياسة ومناورات المفاوضات؛ إذ وُضعت الأسئلة الإستراتيجية على الطاولة
دون التباس، كما لم يَعُد التهديد العسكري مُواربًا أو ضمنيًّا، بل متطورًا إلى
درجة التهديد الصريح بالحرب الاستباقية.
لقد هدّد الناتو بشنّ ضربات استباقية على روسيا، فردّ رئيسها باستعداد بلاده للحرب،
وبالتدمير الشامل لأوروبا؛ إذ أشار إلى أن مشكلة روسيا في تلك الحرب أنها لن تجد
مَن تفاوضه بعدها.
وأطلق تهديدات بتحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة، كما صدرت تهديدات روسية بمهاجمة سفن
بريطانية وفرنسية في البحر الأسود، ردًّا على الهجمات التي تعرَّضت لها سفن
«أسطول
الظل»
الروسي، التي تقوم بتصدير النفط الروسي خارج إطار العقوبات.
وأخطر الأسئلة الموضوعة على طاولة المفاوضات هي تلك المتعلقة بأوكرانيا؛ إذ هي
أسئلة تتعلق باستمرار البقاء.
أوكرانيا تعيش مرحلة شديدة القسوة؛ إذ باتت مُطالَبة بتقدير دقيق لأوضاعها الكلية
للإجابة عن سؤال المصير. فالجيش الروسي يتسارع تقدُّمه في شرق البلاد، والعاصمة
تتعرَّض يوميًّا لقصف كثيف، والمفاوضات تتعلق الآن بتحديد مستقبل بقاء أوكرانيا
كدولة مستقلة، حتى بعد اعترافها بسيطرة روسيا على القرم وشرق البلاد. فروسيا لا
تطلب فقط اعتراف أوكرانيا بالسيادة الروسية على الأراضي الأوكرانية المحتلة،
وبانسحاب القوات الأوكرانية من المناطق التي لم تحتلها القوات الروسية بعدُ، بل
تطلب حياد ما تبقَّى لأوكرانيا من أراضٍ.
وإن رفضت أوكرانيا المعروض عليها، فهي لن تستطيع عكس حركة العمليات العسكرية،
وسيتقلص دعم حلفائها، ليس فقط كما هو حال الولايات المتحدة، بل أيضًا في أوروبا.
كما يصبح حكم الرئيس زيلينسكي مُهدَّدًا بالسقوط، ليأتي حُكم جديد آخر يَقبل بشروطٍ
يرفضها الحكم الحالي. وإن قبلتْ ما هو معروض عليها، فهي تُعلِن استسلامها
«فعليًّا».
وروسيا بدورها باتت تواجه أسئلة كبرى؛ إذ باتت تهديدات الناتو أصرح ولم يكبحها
التهديد النووي، وقد وصلت حد الحديث العلني عن شنّ حرب استباقية على روسيا. كما أن
المعروض عليها أن تكسب في أوكرانيا مقابل التراجع عن تحالفها غير المُعلَن مع
الصين، وأن تفتح مجالات الاستثمار على الأرض الروسية، وفي المحيط المتجمد الشمالي،
أمام الشركات الأمريكية، التي يمثل نشاطها أحد أخطر أدوات اختراق الأمن القومي. كما
تدور التكهنات حول شروط تتعلق بالدور الروسي في مجموعة
«بريكس».
وهي إن رفضت المعروض عليها، واستمرت في حربها، فهي ذاهبة إلى حرب شاملة مع الناتو،
وليس فقط مع أوروبا، وقد تخسر التقدُّم المُحْرَز في العلاقات مع الولايات المتحدة.
والولايات المتحدة تبدو في موقع مختلف الآن عما كانت عليه مِن قبل، وباتت مُطالَبة
بالإجابة عن أسئلة هامة من حلفائها.
فهي لم تَعُد الدولة الداعمة لأوكرانيا ماليًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، بل الدولة
التي تَعتبر نفسها وسيطًا بين روسيا وأوكرانيا، وهي تُظْهِر نوايا بأنها في الطريق
لتصبح وسيطًا بين أوروبا وروسيا. ولقد غيَّرت تموضعها وصارت في موقع الضاغط على
أوكرانيا وعلى حليفتها أوروبا، وربما الحليف الموثوق لروسيا، وهو تحوُّل جعلها في
موضع يطرح تساؤلات كبرى بشأن مستقبل تحالفها التاريخي مع أوروبا.
وأوروبا تتَّهم الولايات المتحدة بالتماهي مع روسيا ودعم مطالبها في تنازل أوكرانيا
عن القرم وإقليم الدونباس، في مقابل تحقيق مصالحها الاقتصادية مع روسيا، وربما بسبب
تراجع قدراتها الدولية أيضًا.
وقد أدَّى تغيير الولايات المتحدة لتموضعها، والتحوُّل من حليف إلى وسيط،
وتهديداتها بالانسحاب من الحرب والتفاوض أيضًا، إلى ظهور أصوات أوروبية تتّهمها
بالخيانة، وبالتحرك وفق خطةٍ تُكرِّر ما جرى في الحربين العالميتين الأولى
والثانية، وأنها تتراجع للخلف لتترك أوروبا وروسيا في حالة صدام متفاعل، لتتدخّل هي
بعد أن يُنْهِك الطرفان بعضهما بعضًا، لتجني المكاسب على حساب الطرفين.
وأوروبا في ورطة، وفي وضعٍ يتطلب اتخاذ خيارات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية
الثانية.
هي تنظر إلى انتصار روسيا على أوكرانيا، وفقًا للمقترحات الأمريكية، باعتباره فتحًا
لمسار تقدُّم روسي مُقْبِل داخل القارة. وهي قَلِقَة مِن تفكُّك تحالفها مع
الولايات المتحدة، في ظرفٍ لا تسمح فيه قدراتها ووضعية علاقات دولها مع بعضها البعض
ببناء تحالف دفاعي مستقل قادر على ردع أو مواجهة روسيا. وهي قلقة من أن تخرج
الولايات المتحدة بنصيب الأسد من مكاسب تلك الأزمة؛ إذ تراها تقود المفاوضات وفق
صِيَغ تُحقّق مصالحها هي دون أوروبا، بل وتستبعد أوروبا من المفاوضات.
وهي تُدرك مخاطر استمرار الحرب أيضًا، باعتباره طريقًا نهايته تعرُّضها لخطر
التدمير الشامل.
أما الصين، فهي إذ أعلنت بصراحة غير معهودة في مواقفها أنه ليس مسموحًا ألّا تنتصر
روسيا، فهي تُعيد حساباتها وترتب أوضاعها، سواء في حالة الوصول إلى نهاية تفاوضية
للحرب أو في حالة استمرار الاقتتال.
لقد نسجت الصين علاقاتها مع روسيا على تساند روسيا اقتصاديًّا لتخفيف أثر العقوبات
الغربية، وتعميق صمودها خلال الحرب، في مقابل مساندة روسيا لها حال دخولها أتون حرب
مع الولايات المتحدة. وهي لا شك تخشى أن تقل حاجة روسيا لها حال انتهاء أزمة
أوكرانيا، وبشكل خاص إذا انتهت لمصلحة روسيا. والصين الآن تتزايد حاجتها للدور
الروسي الداعم لها، على الأقل في هذه المرحلة؛ إذ باتت واقعة تحت ضغط احتمالات
الاشتباك مع اليابان، ومن خلفها الولايات المتحدة، بعد أن أعلنت رئيسة وزراء
اليابان الجديدة، المنتمية لخط شينزو آبي الذي تبنّى عسكرة اليابان وإطلاق يد جيشها
في الخارج، عن نقل صواريخ إلى جزر يابانية قرب تايوان، وعن اعتزام بلادها القيام
برد عسكري مساند لتايوان في حالة هجوم الصين عليها.
وهكذا توسعت أزمة أوكرانيا، وباتت تطرح، في حالتي الحرب والسلم، إعادة توزيع خرائط
القوة، وتغيير طبيعة التحالفات وملامح المصالح على الصعيد الدولي.
جديد أوكرانيا
تتفاعل أوكرانيا مع تغييرات حادة في موازين القوى، وهي باتت مُطالَبة بالحركة
السريعة لحَسْم مواقفها واتخاذ قرارات ذات طابع مستقبلي يُحدّد مصير بقائها.
على الصعيد العسكري، بات جيشها في حالة دفاع وتراجُع. فقد تقدَّم الجيش الروسي في
مقاطعات لم تُعْلِن روسيا ضمها تحت سيادتها، كما هو الحال في مقاطعات خاركيف
ودنيبرو وسومي، كما يُحقّق الجيش الروسي تقدُّم وانتصارات تُوحي بقرب السيطرة على
ما تبقَّى من أراضٍ في المقاطعات التي جرى ضمها. كما تتوالى التلميحات والتهديدات
المباشرة باحتمال أن تُطوِّر روسيا هجومها للسيطرة على مقاطعة أوديسا، وتحويل
أوكرانيا إلى دولة حبيسة لا تُطِلّ على البحر الأسود.
والأخطر أن الجيش الأوكراني أصبح بحاجة ماسّة إلى سلاح يتناسب مع طبيعة المرحلة
الحالية من الحرب، وهي أسلحة لا تملكها إلا الولايات المتحدة، التي غيَّرت موقفها
في ظل إدارة ترامب، وانتقلت من حالة الإمداد المتصاعد في درجة قدرات الأسلحة إلى
حالة الحسابات المعقَّدة، كما هو الحال بشأن تسليم الصواريخ بعيدة المدى، وإلى وقف
الدعم المالي، والطلب من الأوروبيين تمويل شراء أوكرانيا للسلاح الأمريكي.
وعلى الصعيد السياسي الداخلي، بات نظام زيلينسكي واقعًا تحت ضغوط هائلة. فقد تفجرت
فضيحة فساد كبرى، وُصِفَتْ في صحف المعارضة الأوكرانية بفضيحة
«علي
بابا والأربعون حرامي»،
وهي فضيحة تتعلق بأموال المساعدات الخارجية، ووصلت حدّ إقالة مدير مكتب زيلينسكي،
وما تزال تتفاعل، وقد تصل حد الإعلان عن تورُّط الرئيس نفسه. كما تعلو أصوات داخلية
وخارجية، من الولايات المتحدة وروسيا، بضرورة إجراء انتخابات رئاسية؛ حيث انتهت
شرعية بقاء الرئيس زيلينسكي في السلطة بانتهاء المدة الدستورية لرئاسته منذ عام
ونصف.
وعلى الصعيد المالي، فقد انقضت مرحلة الدعم المالي الكامل و«المجاني»
من أوروبا والولايات المتحدة، وحلّ محلها النقاش حول تمويل أوكرانيا من أموال روسيا
المُجمَّدة في البنوك الغربية، وهو أمر لا يزال محل خلاف داخل أروقة الاتحاد
الأوروبي، ليس فقط بسبب التصعيد المحتمل مع روسيا جراء اتخاذ القرار، بل لمخاطر
تأثيراته على ثقة الدول الأخرى بشأن إبقاء أصولها المالية في البنوك الأوروبية، وهو
ما سيؤثر في تدفق الاستثمارات الخارجية في شرايين الاقتصاد الأوروبي المتراجع
أصلًا.
وعلى الصعيد الدولي، فقد زادت الانشقاقات في الصف الأوروبي بشأن الاستمرار في دعم
الحرب ودعم نظام زيلينسكي. وإذ حلّت أوروبا المعضلة بتشكيل ما يُسمَّى
«تحالف
الراغبين»
في دعم أوكرانيا، فلا شك أن أوكرانيا تنظر لما يجري باعتباره تراجعًا من بعض الدول
عن دعمها، وأن الاتحاد الأوروبي لم يَعُد قادرًا على إصدار موقف أوروبي مُوحَّد
لدعم أوكرانيا.
كما أن الأهم والأشد تأثيرًا هو أن المواقف الأمريكية باتت تتعجل إنهاء الحرب على
حساب مصالح أوكرانيا، وهو أمرٌ لم يكن مظهره الوحيد ذلك اللقاء المتفجّر، الذي اتسم
بالإذلال الأمريكي للرئيس الأوكراني في البيت الأبيض، بل أيضًا طبيعة الطلبات
الأمريكية من أوكرانيا بشأن التنازل عن الأراضي لروسيا، والامتناع عن تقديم ضمانات
حقيقية تحمي ما يتبقَّى من أوكرانيا.
وهكذا باتت أوكرانيا في مواجهة ضغوط عسكرية واقتصادية، وعلى صعيد تحالفاتها، وفي
مواجهة الإجابة عن الأسئلة الإستراتيجية التي ستُغيِّر وضعية الحدود والدولة،
وإستراتيجياتها السياسية والدفاعية، ومفاهيمها عن الأمن القومي…
إلخ.
تغيير خرائط التحالفات.. وخرائط القوة
بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا تحت مسمى
«العملية
الخاصة»،
ووقتها كان بارزًا الحديث الروسي عن اضطهاد الناطقين باللغة الروسية، كمُبرِّر
لإشعال الحرب. لكنّ الحال تغيَّر الآن؛ إذ تصدَّرت القضايا الإستراتيجية حلبة
التفاوض، وهنا بدا أن الموقف الأمريكي قد شهد تغييرًا كاملًا، تمثل في الاستجابة
لمطالب روسيا، التي تطرح حلولًا تتعلق بالوضع الإستراتيجي لبقاء دولة أوكرانيا،
وسياساتها الدفاعية والخارجية، وبطبيعة النظام السياسي المقبل.
وما يجري التفاوض بشأنه الآن ليس فقط تخلّي أوكرانيا عن أراضيها المحتلة، وهي ذات
طبيعة إستراتيجية وبها ثروات ومصانع كبرى، بل نقل أوكرانيا، أو ما تبقَّى منها، إلى
موقع الدولة المحايدة، بل وحتى الواقعة تحت هيمنة روسيا.
ووفقًا للصراع العدائي في التفاوض الآن، فإن القضايا الرئيسية تتعلق بالاعتراف بضم
روسيا للأراضي الأوكرانية، وعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ومواجهة حكومتها
ما تصفه روسيا بالفاشية على أرضها، من أتباع القائد الأوكراني بانديرا، الذي انضم
للنازية الألمانية وحارب ضد روسيا، وتحديد عدد القوات المسلحة الأوكرانية، وهو ما
يعني تغيير أوكرانيا من بلد مستقل كامل السيادة وقادر على الدفاع عن أرضه، إلى دولة
يمكن وصفها بالكاد بالدولة المحايدة في الصراع بين روسيا وحلف الناتو.
غير أن أسئلة كبرى تُطْرَح في خلفية المشهد التفاوضي المتعلق بأوكرانيا، وسيُبْنَى
على إجاباتها إعادة توزيع خرائط التحالفات، وتتغير بسببها موازين وخرائط القوة على
الصعيد الدولي.
ويدور السؤال الإستراتيجي الأول حول علاقة أوروبا والناتو بروسيا؛ إذ يمكن القول:
إن الولايات المتحدة هي من ترسم طبيعة العلاقات بين الناتو وروسيا، بحكم هيمنتها
على الحلف، فقد أظهرت الولايات المتحدة عزوفًا عن استمرار حالة العداء مع روسيا،
وسعيًا نحو تعاون اقتصادي يتعلق بالشراكة مع الشركات الأمريكية للاستثمار في المحيط
المتجمد الشمالي، بل وحتى على الأراضي الأوكرانية، وانفتاحًا بشأن إعادة إمدادات
الطاقة الروسية إلى أوروبا، في وقتٍ تتحدث فيه أوروبا عن استعدادات للحرب مع روسيا.
وذلك ما طرح تساؤلات حول ما إذا كانت أوروبا قادرة على بناء قدرات مستقلة عن
الولايات المتحدة، في ظل تراجعها الاقتصادي البادي في تنامي معدلات الدَّيْن
الخارجي مقارنةً مع الناتج القومي الإجمالي، وتزايد إفلاس الشركات الكبرى
والاستغناء عن العمالة، وتراجعها السياسي الظاهر في تنامي قوة اليمين الفاشي
والعنصري، الذي يشنّ حربًا عدائية على كيان الاتحاد الأوروبي، وفي عدم استقرار
الحكومات بسبب انخفاض حالة الإجماع حول تيار الوسط وتشتت أصوات الناخبين بين تيارات
متعددة، وحول استمرار حلف الناتو في ظل تصاعد الاختلاف حول الأمن الأوروبي
ومهدداته.
وهي تساؤلات باتت ملحّة في ضوء إقرار إدارة ترامب إستراتيجية جديدة للأمن القومي،
برزت فيها، وفي تصريحات ترامب التوضيحية بشأنها، حالة هجوم حادة على أوروبا، وإشارة
إلى أنها تتعرض لمحو حضاري، وأن دولها ضعيفة وغير ديمقراطية، بل حتى ديكتاتورية،
وهو ما أظهر تدخلًا أمريكيًّا عميقًا في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية، ورغبة
حادة في عدم مساندتها، ووصلت التقديرات حد توقع افتراق بين الولايات المتحدة
وأوروبا، وهو ما سيحول روسيا إلى دولة مهيمنة.
ويدور السؤال الثاني حول أبعاد الموقف الروسي، سواء ما يتعلق باحتمالات الحرب مع
أوروبا من جهة، أو طبيعة ما يجري نَسْجه من علاقات مع الولايات المتحدة من جهة
أخرى، وحول تصورات روسيا للعلاقات مع الصين ما بعد انتهاء الحرب مع أوكرانيا.
والظاهر حتى الآن أن روسيا لا تزال متمسكة بالحرب الدفاعية مع أوروبا، وأنها
مستعدَّة لرَدّ أيّ عدوان، وقادرة على الذهاب إلى أبعد مدًى في هذا الرد، وأنها
صرفت نظرها إستراتيجيًّا عن اتجاه أوروبا، وتحولت للتركيز على الأوراسية، وإلى
التعاون الدولي عبر
«بريكس»،
لتحقيق استقرار علاقاتها ومصالحها. وأن المرحلة المقبلة ستشهد إضافة بُعْد آخر
يتعلق بنسج علاقات اقتصادية أوثق مع رؤوس الأموال الأمريكية.
غير أن ما ليس واضحًا هو المدى الذي ستذهب إليه روسيا في علاقاتها مع الولايات
المتحدة، وطبيعة العلاقات المستقبلية مع الصين؛ إذ أبرزت زيارة بوتين الأخيرة للهند
(مُنافِس الصين)؛ إلحاح البلدين على استمرار علاقاتهما العسكرية، ورفع معدلات
التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار سنويًّا.
سيناريوهات واحتمالات متعددة
ما يجري هو أن روسيا تحاول استثمار ضغطها العسكري وتراجع قدرة القوات الأوكرانية،
لتثبيت السيطرة على كل الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها، بما في ذلك تلك
الواقعة في مقاطعات دنيبرو وخاركيف وسومي؛ لرسم حدود المنطقة العازلة التي ستُبْعِد
حركة القوات الأوكرانية عن المناطق التي ضمَّتها إلى أراضيها.
وأنها تستثمر في التحوُّل الحادث في الموقف الأمريكي؛ لإحداث شرخ عميق بين الولايات
المتحدة وأوروبا.
وما يحدث هو أن أوروبا تتحرك في الاتجاه المضادّ لقطع الطريق على تحقيق روسيا
أهدافها، ولقطع الطريق على تحرُّك أمريكا المنفرد لتحقيق مصالحها، عبر تعطيل
المفاوضات والدفع نحو استمرار الحرب.
وما يجري أمريكيًّا هو العمل على تحييد روسيا ودورها في الصراع الأمريكي مع الصين،
أو إضعاف التحالف الروسي–الصيني
على الأقل، وهي محاولة للاستثمار في ضعف روسيا بعد استنزافها، لاختراق أمنها القومي
عبر الشركات ورؤوس الأموال الأمريكية.
ولكل ذلك وغيره، فإن النتائج التي سينتهي إليها التفاوض الجاري ستنتج أوضاعًا
جديدة، وربما تكون خطيرة على الصعيد الدولي، وفي ذلك تتعدد السيناريوهات.
في السيناريو الأول، أن تفشل المفاوضات فتستمر الحرب، وهي حالة تفتح الأبواب أمام
عدة احتمالات:
- احتمال أن تُوسّع أوروبا دعمها للجيش الأوكراني دون تدخُّل مباشر، وهو ما يتطلب
إصدار قرار بمصادرة الأموال الروسية المُجَمَّدة في البنوك الأوروبية.
- احتمال أن يؤدي ذلك إلى توسيع روسيا لخطط جيشها باتجاه السيطرة على مناطق جديدة
في أوكرانيا، والأغلب أن تكون باتجاه أوديسا، وقد يؤدي هذا التطور إلى إسقاط نظام
زيلينسكي.
- الأرجح أن تردّ أوروبا بتدخُّل دولة أو دولتين في الحرب دون ردّ جماعي عبر قوانين
الناتو.
- وقد ترد روسيا بالتحرك لضم إقليم ترانسنيستريا الانفصالي في مولدوفا، وهو تطوُّر
قد يُحوِّل الحرب إلى حرب شاملة؛ إن لم تتدخل الولايات المتحدة مجددًا.
وفي السيناريو الثاني، أن تتوقف الحرب وفق حالة تجميد الصراع دون تسوية، وهو
سيناريو سيؤدي إلى تقسيم أوكرانيا كأمر واقع، وتحويل الصراع إلى قضية مزمنة، لن
تُحَلّ إلا بحدوث تغيير في التوازنات الدولية.
وفي السيناريو الثالث، أن تنتهي الحرب وفق تسوية تُجْبَر فيها أوكرانيا على
الاعتراف بسيطرة وضمّ روسيا لأراضيها، وأن تُقدّم التعهدات المطلوبة بعدم الانضمام
للناتو، وأن تَقبل بحياديتها، وهو ما يُحْدِث تغييرًا حاسمًا في علاقات الولايات
المتحدة بأوروبا، وقد يُؤدّي إلى انقسام حقيقي في مواقف الدول الأوروبية، وربما
صدور إعلانات أمريكية بعدم جدوى بقاء الناتو.
وسيكون على الصين أن تُعيد البحث في نمط علاقتها مع روسيا
«المنتصرة»،
وأن تتحرَّك روسيا لاستثمار هذا الظرف لتطوير علاقاتها بالولايات المتحدة، وتعميق
الشرخ في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، والتحرُّك من موقع أقوى مما كانت
عليه في علاقاتها مع الصين.