تبريرات الإعلام الروسي للتدخل العسكري في سوريا

تبريرات الإعلام الروسي للتدخل العسكري في سوريا

غالبية الشعب الروسي ضد التدخل العسكري لبلادهم في سوريا، بحسب ما أكده الخبير الروسي في شؤون الشرق الأوسط «أندريه ستيبانوف» مستندًا إلى استطلاع للرأي أجري في روسيا قبل نحو شهرين، وأظهر الاستطلاع أن ما يزيد على ٦٩% من المشاركين عارضوا التدخل العسكري في الشأن السوري، وعارضوا إرسال قوات إلى الخارج تحت أي ذريعة كان، لذا بدأت البروبوغاندا الروسية بحشد الدعم الشعبي لتأييد ذلك التدخل، وإقناع المواطن الروسي بأهميته، وتهيئته لتقبل تكلفته التي بالتأكيد لن تكون منخفضة.

وبالفعل خرج علينا المستشرق الروسي عضو أكاديمية العلوم «فيكتور ميخين» ليعلن وفق استطلاعاته أن غالبية الشعب الروسي يؤيدون قرار التدخل العسكري في سوريا تأييدًا مطلقًا، ويرون أنه ضروري كخطوة استباقية لحماية أمن روسيا من الإرهاب ومن إمكانية وصول «تنظيم الدولة» إلى جمهوريات آسيا الوسطى، ومنها إلى الجمهوريات المسلمة بالاتحاد الفيدرالي الروسي، ولمنع تكرار ما حصل في الشيشان. وبعيدًا عن هذا وذاك أظهر استطلاع أجراه مركز ليفادا الروسي المستقل في سبتمبر الماضي قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا مباشرة أن ٥٠% ممن شملهم الاستطلاع لا يبالون بسياسة روسيا في سوريا، أو ليس لديهم رأي على الإطلاق، في حين أكد ١٤% منهم فقط تأييدهم للتدخل العسكري[1].

ويبدو أن هذه النتيجة كانت كافية لصناع القرار الروس للبدء بعملياتهم العسكرية في سوريا، ولكنها بالتأكيد لن تكون كذلك عندما تصل جثامين الجنود القتلى إلى الوطن، أو عندما تبدأ التفجيرات الانتقامية في المدن الروسية، بل تهديد أمن الجاليات الروسية في العالم بأسره، أو على الأقل عندما تتكشف نفقات التدخل العسكري الروسي هناك في ظل العقوبات والوضع الاقتصادي الراهن، لذا جيشت البروبوغاندا الروسية أبرز صحافييها الذين واكبوا الصراع في أوكرانيا لكن هذه المرة من أجل دعم التدخل العسكري في سوريا. ومن بين هؤلاء المراسلين من التقط صور «سيلفي» مع آليات الجيش السوري، وصورًا للغرف المخصصة للجنود الروس، إضافة إلى تفاصيل يومياتهم.

وردًّا على التحقيق الصحفي الذي نشره موقع «جازيتا رو» بعنوان: «اعتقدوا أنهم ذاهبون إلي دنباس.. وتبين أنهم يتوجهون إلى سوريا»، الذي كشف عن حالة التذمر التي انتابت مجموعة من الجنود والضباط بالجيش الروسي عندما علموا أنهم سيسافرون إلى سوريا لا إلى أوكرانيا[2]؛ ذكرت صحيفة «فيداميستي» في المقابل أن الجنود الروس المنتشرين في سوريا قد قُدم لهم التحفيز المادي المناسب، إذ أضيف مبلغ ٦٢ دولارًا يوميًّا على رواتب الضباط و٤٣ دولارًا يوميًّا على رواتب الجنود العاديين.

ونظرًا لأهمية الإعلام في هذه الحرب في تغيير المزاج الروسي العام الذي يميل لمعارضة تدخل بلادهم العسكري في الخارج بسبب عقدة حرب أفغانستان التي استمرت لعشر سنوات، وعقدة حرب الشيشان وما صاحبها من تفجيرات استشهادية في المدن الروسية. ونظرًا لنجاحهم الملحوظ في ذلك، فسوف نلقي هنا بعض الضوء على ثلاثة محاور رئيسية تم استخدامها في تسويق وتبرير ذلك التدخل.

إثارة المشاعر (إنقاذ الجندي بشار)

برغم المادية الطاغية على الشعب الروسي بشكل عام إلا أن النواحي الإنسانية وبعض الروحانية وإثارة العاطفة الدينية لا تزال تحظى بترحيب معتبر بين كثير منهم، وهو ما نراه - مثلًا - في تصوير بعض وسائل الإعلام للتدخل العسكري في سوريا بطريقة هوليودية مؤثرة (تكاد تشبه أحداث فيلم «إنقاذ الجندي رايان») لحماية بشار الأسد من ملاقاة مصير إخوته كمعمر القذافي وغيره، خاصة بعد التركيز على حمايته المزعومة للأقليات، ومنهم بالطبع المسيحيون الأرثوذكس السوريون الذين يتبعون روحيًّا بطريركية موسكو وعموم روسيا، وتضخيم ما عانوه من تصرفات «داعش» في المناطق التي انحسر عنها نفوذ الأسد. وهو ما دفع الكنيسة الروسية لمباركة التدخل الروسي هناك ووصفه بـ«حرب مقدسة».

الأمر ذاته شجع إحدى القنوات الروسية لبث حلقة حوارية قال مقدمها بالحرف الواحد: «لولا سوريا (يقصد بلاد الشام) لما وجدت الحضارة الروسية، بالتالي فإن سوريا هي أرضنا المقدسة». ولكن حتى لا يبدو فلاديمير بوتين كجورج بوش في 2003م عندما أعلن حربًا صليبية على الإرهاب في العراق، يستتر الجهاد المسيحي المقدس هذا وراء جهاد إسلامي فئوي ضد المتشددين التكفيريين يمثله حزب الله وبقية المليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانبه الذي يلقى تأييدًا من «الإدارة الروحية المركزية للمسلمين في روسيا» كذلك عبر رئيسها «طلعت تاج الدين»، إضافة إلى موقف الرئيس الشيشاني «رمضان قديروف» الذي اعتبر تدخل القوات الروسية «ضروريًّا لمحاربة الإرهاب»، هذا بالطبع غير أسطوانة الدفاع عن الديمقراطية والشرعية وإيقاف حركات الانفصال وتقسيم سوريا[3]. ومن ثمَّ أمطرت وسائل الإعلام الروسية تقاريرها الإخبارية بمعلومات مفترضة عن الترحيب السوري بالتدخل الروسي لمحاربة الإرهاب، ترسخ في ذهن المواطن الروسي مقولات كالعنوان الرئيسي الذي أوردته صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» واسعة الانتشار في افتتاحيتها بعد الغارات الجوية التي نُفذت في الليلة الأولى للقصف: «السوريون يتطلعون إلى السماء بأمل».

ولكن هل يستحق ذلك كله (على فرض صحته) أن يتكبد الجيش الروسي التضحيات والخسائر نفسها التي تكبدتها فرقة «ميلر» في الفيلم؟! قد يكون ذلك كافيًا لكسب تأييد المواطن الروسي العادي أو على الأقل لتجنب معارضته، ولكن النخبة الثقافية والمعارضة السياسية قد يحتاجون لإقناعهم بأكثر من من مجرد إنقاذ الجندي بشار وكل ما يمثله.

فرض الهيبة (إعادة أمجاد ثنائية القطب)

تعتبر سوريا منطقة النفوذ الوحيدة لروسيا في العالم العربي المهيمَن عليه من الغرب، وهي تستضيف قاعدتها العسكرية اليتيمة في طرطوس، وتستورد منها جميع أسلحتها تقريبًا. ولكنها أضحت ملعبًا سياسيًّا تتنافس فيه قوى محلية وإقليمية وعالمية، وأمام هذه التطورات كان لا بد للقيادة الروسية أن توجه رسالة قوية بأنها لا تزال لاعبًا دوليًّا أساسيًّا، وقادرة على حماية مصالحها، وأنها لن تترك مصير أصدقائها ليقرره منافسوها، خاصة أنها تمتاز عنهم بكونها الوحيدة التي تمتلك شرعية التدخل (طلب رسمي مباشر من الرئيس السوري) ولديها الحزم والرؤية الواضحة (على عكس كثيرين) لفرض قواعد جديدة للعبة، بل وتشكيل حلف جديد قد يجذب بعض أعضاء الحلف المنافس. كما أن استقرار نظام الأسد في سوريا يُعتبر ضرورة إستراتيجية لحليفها الصيني، وعقائدية ملحة لحليفها الإيراني، اللذين تشترك معهما بمصالح سياسية واقتصادية لا يمكن إغفالها في هذه المرحلة بالذات. وهذا ما عبر عنه نائب رئيس مركز النانوتكنولوجي «أرمن تادوفسيان» من أن: «تدخل روسيا العسكري في سوريا تأكيد لدورها وحضورها على مسرح السياسة الدولية، وكسر هيمنة القطب الواحد، وأن لروسيا مصالح يجب أخذها في الحسبان»، وأضاف أن قرار التدخل العسكري اتخذ بعد أن تم التصويت عليه بمجلس الشيوخ (الغرفة العليا)، مشيرًا إلى أن ٨٦% من الجمهور الروسي أعربوا عن ثقتهم بسياسة بوتين وهذه أعلى نسبة ثقة تمنح لسياسي. ولكن بعيدًا عن القنوات الرسمية نجد حقيقة مغايرة في العالم الافتراضي، وقد عبر عن ذلك «كونستانتين كلاشيف» رئيس مؤسسة «مجموعة الخبراء السياسيين» واصفًا الاستياء الشعبي الروسي على مواقع التواصل الاجتماعي بقوله: «لأول مرة تتعارض خطط بوتين مع الرأي العام (...) فهذه أول مرة تختلف فيها آراء الروس العاديين عن آراء النخبة الحاكمة». وتقول «إيلينا كوستيوشينكو» مراسلة صحيفة «نوفايا غازيتا» المعارضة: «أمي اتصلت بي باكية تقول: لماذا ندخل حربًا أخرى؟».

وبالفعل، هل تستحق استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي خوض هذه المغامرة التي تذكر الروس بتدخله في أفغانستان، الذي كان سببًا في انهياره؟ خاصةً أن تدخل روسيا هذه المرة لن يكون في محيطها بل في منطقة حرجة تبعد ألف كيلومتر عن حدودها، ولا تحظى بأية مكانة بين أولويات السياسة الروسية الخارجية[4]، بل وفي وقت تعاني فيه من أزمة اقتصادية خانقة بحسب تعبير أستاذة الاقتصاد بجامعة موسكو «إيرينا فيليبفا»، التي قالت: «أرى عدم صوابية قرار التدخل العسكري الروسي في سوريا لما تمر به البلاد من أزمة اقتصادية خانقة وعقوبات غربية مفروضة، والأزمة الأوكرانية التي استنزفت وما زالت تستنزف الخزينة الروسية، فالتدخل العسكري يتطلب زيادة إنفاق للمجهود الحربي الجديد وتقليص الإنفاق على قطاعات أخرى كالصحة والتعليم، وخطط التحديث التي اتخذتها حكومتنا الحالية، وبرامج الاستغناء عن الاستيراد، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمجتمع الروسي»، وأضافت: «نحن في غنى عن التورط في نزاعات خارجية، بل يجب العمل على النهوض باقتصاد بلادنا».

لا بد أن يكون هناك سبب أكثر وجاهةً لتبرير تلك المخاطرة، وتقبل المواطنين الروس لثمنها الذي قد يكون باهظًا.

التخويف (الجهاديون الروس)

طوال الفترة السابقة، وفي معرض تبرير إرسال الأسلحة لنظام الأسد الذي قتل 300 ألف على الأقل من أبناء شعبه لمجرد مطالبتهم بالإصلاح وبتغيير النظام، تكرر عبر الإعلام تصريح الرئيس الروسي بوتين بوجود أكثر من ألفي جهادي من الاتحاد السوفيتي السابق في سوريا «وبدلًا من انتظار عودتهم إلى الوطن علينا أن نساعد الرئيس الأسد في قتالهم هناك». ولكن الأمر الآن بات يحتاج أكثر من مجرد إرسال السلاح، خاصة أن جيش النظام بالكاد يستطيع الصمود في البقع المتناثرة التي لا تزال تحت سيطرته، وفقط بمساعدة المليشيات الشيعية التي أصبحت بدورها مثخنة بالجراح، وبالأخص حزب الله اللبناني بعد أن فقد كوادره الأساسية، وقوات النخبة، وأصبح مجبرًا على إرسال أعداد بشرية غير مدربة فقط من أجل استمرار المعارك والحفاظ على عدم انسحابه. كما أن روسيا قرأت العديد من نقاط الضعف في نظام الأسد خلال الخطاب الأخير الذي أقر فيه أن جيشه أصابه التعب، واعترف بخسارة العديد من المناطق الإستراتيجية. ولتغيير المعادلة على الأرض أصبح لزامًا تزويده بمنظومة جوية بالغة التطور (مثال طائرات سوخوي 34) لم تكن روسيا لتأتمنه عليها في الظروف العادية بسبب الصراع العربي الصهيوني، ناهيك عن هذه الظروف الحرجة التي قد يسقط النظام فيها بين عشية وضحاها، وتنتقل أسلحته إلى خصومه؛ وبالتالي لم يعد هناك مناص من تدخل مباشر في المستنقع السوري، وإلا، فإن البديل في حال انتصار الفصائل الجهادية هو خوض الحرب نفسها في عمق الأراضي الروسية وبتكلفة مضاعفة وأكثر خطورة.

أي مواطن روسي بغض النظر عن توجهاته قد يقنعه سبب أو أكثر من هذه الثلاثة لتأييد التدخل العسكري لبلاده في روسيا، ولكن السبب الحقيقي بالنسبة لصانع القرار الروسي قد يكون شيئًا آخر.

 :: مجلة البيان العدد  342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر  2015م.


[1] أجري الاستطلاع خلال الفترة من 18 إلى 21 سبتمبر، وشارك فيه 2400 شخص بالغ يمثلون مختلف المناطق الريفية والحضرية في 134 من المدن والبلدات في 46 إقليمًا في روسيا. ولا يتجاوز هامش الخطأ في هذا الاستطلاع ٣٫٤  -   ٤٫١%.

[2]   علموا من خلال تزويدهم بأسلحة أكثر تطورًا وحداثة من تلك التي يستخدمونها، كما أنهم تلقوا تعليمات بكيفية التعامل في حالة سقوطهم في الأسر، وبمجرد أن تأكد العسكريون أنهم ذاهبون إلى سوريا ناقشوا احتمالين: رفض تنفيذ المهمة لأن القيادة لم تحدد تفاصيل الخطة والهدف والفترة الزمنية، أو الاستقالة. وتوجهوا إلى النيابة العسكرية التي حذرتهم من رفض تنفيذ الأوامر العسكرية وهو ما يترتب عليه مسؤولية جنائية، وتم رفض تسلم الشكوى المقدمة منهم.

[3] من المفارقة العجيبة أن نفس الإعلاميين الذين يحاولون إقناع المواطن الروسي بذلك هم من تبنوا في الأمس القريب منطقًا معاكسًا تمامًا في أوكرانيا.

[4] هذا ما يتضح من خلال وثيقة «مفهوم السياسة الخارجية الروسية» التي أقرها الرئيس فلاديمير بوتين في فبراير 2013م (يمكن الاطلاع عليها على موقع وزارة الخارجية الروسية)، إذ إن روسيا تضع تحت باب الأولويات الإقليمية بالوثيقة سياستها الخارجية في محيطها الجغرافي (دول الاتحاد السوفيتي السابق، وأوربا والصين على وجه الخصوص)، كما أن الوثيقة تشير للعديد من الدول بالاسم، وتؤكد على أهمية سعي روسيا لتعميق علاقاتها معها، بينما تأتي منطقة الشرق الأوسط في ذيل القائمة تقريبًا دون إشارة لدولة بعينها وببنود عامة تتعلق بقضايا المنطقة كتأييد روسيا لحل سلمي للقضية الفلسطينية أو البرنامج النووي الإيراني (ذُكرت منطقة الشرق الأوسط في بندين فقط من أصل 52 بندًا تحت باب الأولويات الإقليمية).

أعلى