إيران المتجهة إلى إفريقيا تبشيراً واستثماراً

إيران المتجهة إلى إفريقيا تبشيراً واستثماراً

 

تأخذنا الاشتباكات الفكرية والصراعات الطائفية كثيراً إلى غير المكان الذي نريده؛ فحيث تغدو طموحاتنا العربية والإسلامية بحاجة إلى تفعيلٍ وبناءٍ ونهضةٍ حضارية، تبدو خريطتنا العربية وحوضها الإسلامي الحاضن مقبلة على إعادة رسمها بريشة جديدة وهو ما يتطلب قدرة على تجهيز أدوات دفاعها عن مكتسباتها القليلة التي ظلت محتفظة بها حتى الآن بعد سلسلة من التراجعات والتنازلات والإخفاقات.

ولقد أضحى متعيناً على فضائنا الإسلامي أن ينظر بقلقٍ بالغٍ إلى تحديات لم تكن قبل عقود على الدرجة العالية هذه من الأهمية؛ لا سيما تلك التي تتعلق بتغيير الخرائط الديموغرافية والتي هي الأ كثر خطراً من الخرائط السياسية وترسيم الحدود؛ فمسألة استعادة أراضٍ وقعت تحت احتلال مَّا، أو إعادة ترسيم حدود هي أدنى بكثير من أن يعود المرء إلى دياره وأوطانه فينكرها ويراها على وجه غريب لم يألفه، وأخطر ما في ذلك أن يَمسَّ هذا التغيير عقائده وأصوله وأركانه وثقافته، وهذا الذي تُحدِثه بقوة هذه الأيام إيرانُ في المحيط الإسلامي الشاسع؛ إذ لا تفتأ تتحرك فيه داعية إلى أيديولوجيتها أو داعمة لها بأكثر من وسيلة.

واللافت للنظر أنها إذ تفعل ذلك؛ فإن أحداً لا يمكنه أن يحل هذا اللغز عمَّن يدعم الآخر: أهي الأيديولوجية، أم المصلحة الوطنية والقومية؟ بمعنى أن التشييع الذي تقوم به الدولة الإيرانية ما زال يتردد بين الوسيلة والغاية في تحرك أجهزة الدولة الإيرانية؛ فلا يمكن تحديد الخادم الحقيقي للآخر، غير أن مدى اقتراب الملالي من الإخلاص لعقيدتهم أو التفاتهم إلى مصالحهم هو ما يعيِّن بقَدْر أوضح مقدار خدمة هذا لذاك، أو يحدد الفوارق ما بين الأيديولوجي والسياسي في منطلقات الدعوة إلى التشيع في العالم.

على أن الأبسط من الوقوع في شَرَك هذا التشريح، هو الخروج إلى معادلة انتشار التشيع في العالم، الذي يساوي نفوذاً أعلى للجمهورية الإيرانية؛ سواء جرى تصنيفها طائفية أو فارسية (والعكس بالعكس )، وهذا التصنيف الأخير لا يغيِّر أيضاً من المعادلة شيئاً كبيراً؛ فاختلاط الفارسية بالمعتقد هو ما أضفى (قدسية) على الأُوْلى، وجعلها تبلغ حدّاً أيديولوجياً جعل ذات مرة المرشد الأول للثورة (الخميني) يتصلب كثيراً في موقفه حيال تسمية الخليج العربي بالإسلامي (كحل مقترح من قادة مسلمين) والإصرار على فارسية الخليج بشكل أرسى هذا التزاوج الواضح بين القومية والأيديولوجية (المختارة) للدولة.

ومن هنا، فإننا حينما نتحدث عن إفريقيا، ونقتبس هذه العبارة من داعية شيعي بالسودان، (وهو معتصم سيد أحمد )، يقول فيها في حوار مع موقع المرجع الديني الشيعي المدرِّسي: (هنالك تربة خصبة في القارة الإفريقية؛ فإذا نظرنا للجزء الشمالي من القارة الإفريقية من مصر و الجزائر و المغرب و السودان نجد أن هناك حُبّاً متجذراً في نفوس هذه الشعوب بالولاء لأهل البيت - عليهم السلام - كذلك هنالك نوع من البساطة في قبول الطرف الآخر؛ فالإفريقي بشكل عام متسامح يقبل الحوار ويقبل الطرف الآخر بعكس بعض العقليات المتشددة الموجودة في البوادي ).

إنه لا يمكننا أن نفسر هذا التدفق الدعوي الشيعي إلى إفريقيا في ضوء هذا المعيار وحدَه الذي ينظر به دعاة التشيع إلى إفريقيا كأرض خصبة فقط لنشر معتقداتهم؛ بل ينبغي أن نستحضر جملة من الأسباب الدافعة إلى هذا الالتفات الإيراني إلى هذه القارة المقهورة، وهي من تحرِّك غيرها من الدول ليس لنشر معتقدات بالضرورة؛ بل إلى الاستثمار والهيمنة وإيجاد موطئ قدم لها على أرض الكنوز الدفينة.

إن مخزونات قابلة للاستخراج من النفط الخام والغاز والفحم واليورانيوم في إفريقيا تقدَّر بنحو 13 - 14.5 تريليون دولار، و 1.7 تريليون دولار من الثروة الكامنة والإنتاج في قطاعات مثل: الزراعة والسياحة والمياه، قدَّرتها دراسة حديثة أعدتها (أفريكا إنفستور) و (أفريكا غروب) للأبحاث الاستثمارية في شهر يوليو الماضي، هذه المخزونات مثيرة لشهية أي دولة لديها نية في لعب دور إقليمي ودولي؛ لا سيما إذا كان (الاهتمام الكامن بإفريقيا ضخماً جداً )، كما يقول ستيفن جنينجز، الرئيس التنفيذي لـ (بنك الاستثمار الروسي) لقمة رويترز، وكذلك لا يسع ستيفن هانسن المحلل الاقتصادي الأمريكي الشهير سوى القول: إن هذا العقد هو عقد إفريقيا بامتياز [1].

إن الاقتصاد غير بعيد عن طموحات إيران في إفريقيا، والسياسة تدفعها إلى محاكاة (إسرائيل) في الاتجاه إلى إفريقيا التي توفر عدداً كبيراً من الأصوات في الأمم المتحدة، وتحرص الدول - لا سيما الدول ذات السجل الحقوقي والأمني السيء ك (إسرائيل) وإيران والصين - على استقطاب أصواتها.

هذه إحدى محفزات إيران للاتجاه إلى إفريقيا، وليست طبيعة الإفريقي (المتسامح بشكل عام )، وقدرته على (قبول الطرف الآخر) فقط كما قال سيد أحمد، ولا قدرة المعتقد الشيعي الإثني عشري الذي يمكنه أن يقتات على (مظلومية) الأفارقة الحقيقية التي حفرها (المستعمر) الغربي في الذاكرة الإفريقية بجبروته وطغيانه الفظيع الذي استنزف من إفريقيا الدماء قبل الثروات، وأقام إمبراطورياته الحالية على أكبر تجارة استنزافية في العالم في القرن السابع عشر وما تلاه؛ وهي تجارة العبيد، قبل أن يتجه إلى استنزاف النفط لدى العرب بعد الثورة الصناعية الكبرى التي لم تعد تحتاج إلى العبيد ف (حررتهم) قبل قرنين مضيا.

وهذه (المظلومية) كفيلة بأن تهيئ للقادمين من أرض فارس والعراق ولبنان أرضاً خصبة لنشر أيديولوجيتهم جنباً إلى جنب مع استثماراتهم ومشروعاتهم، وفي استدعاء الظلم الذي وقع على (الحسين) - رضي الله عنه - سلوانٌ للمظلومين عبر القرون، المتطلعين إلى غدٍ إفريقي أفضل.

ولا بأس في أن يستغل المسؤولون ميداناً هو الأكثر فساداً في العالم؛ بحسب مؤسسة غالوب في استطلاعها الذي قامت به لصالح منظمة الشفافية العالمية المعنيَّة بمحاربة الفساد حول العالم؛ إذ جاءت الدول الإفريقية على رأس الدول الأكثر فساداً في العالم.

لا بأس أن يُستغَل ذلك في بذل المال الكافي لضمان ترافق (الدعوة) والاستثمار معاً جملة واحدة؛ لا سيما في نيجيريا وكينيا و جنوب إفريقيا والسنغال وغانا الدول الواعدة ضمن دائرة الضوء الاستثماري العالمي الغارقة في الفساد أيضاً.

ومن فضول القول: إن كثيراً من مروِّجي الأفكار الباطنية والثقافات المستورَدة الدخيلة من جهة، والشركات المتعددة الجنسيات من جهة أخرى تفضِّل التعامل مع أنظمة فاسدة بدلاً من أخرى تدقق في الداخل والخارج من الأفكار والاستثمارات.

وإذا كان من الغبن عزو النشاط الشيعي الملاحَظ بقوة الآن في إفريقيا إلى هذه المشهِّيات والمحفزات آنفة الذكر؛ فإن من الضروري للتعرف على هذا النشاط بشكل موضوعي أن نعاين العوامل الرئيسة في انتشار التشيع في إفريقيا على النحو الذي نلمسه اليوم، وإنَّ تتبُّعاً لتواريخ نشاط الترويج للتشيع في إفريقيا سيقودنا إلى محطتين بارزتين رئيسيتين وأخريات فرعيات مرَّ بها هذا النشاط تزوَّد بوقود اشتعاله منها:

المحطة الأولى: هي قيام نظام الجمهورية الإيرانية الشيعية في إيران عام 1979م، وقد أطلق معها المرشد الأعلى للثورة (الخميني) مشروعه لتصدير ما أسماه بالثورة، وعنى به الأيديولوجية الشيعية، وحدد لها مجالاً تقليدياً هو المحيط الإسلامي؛ إذ إنه من المعروف أن النشاط الدعوي الشيعي مقصور على الداخل الإسلامي في معظمه الغالب ولا ينشط خارج إطار المسلمين؛ فهو غير معني أصلاً بانتشار الإسلام، وإنما بذيوع الفكرة الشيعية المتمردة على المحيط السُّني باعتباره أحد مفرزات الخلافة الراشدة [2] والدولة الأموية والعباسية والعثمانية.

وفي إفريقيا (محل النظر )، وعند تتبع النشاطات والمؤسسات التي تأسست في إفريقيا يُلحَظ أن معظمها بدأت عملها في الأعوام التي تلت الثورة الإيرانية، وبدءاً من عام 1983م تقريباً، وأن العالم العربي سرعان ما تلمَّس أصداء هذه الثورة لا سيما في إفريقيا، وشعرت دول مؤثرة كمصر بهذا الحضور الإيراني خصوصاً في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات العظمى، التي هي الامتداد الإستراتيجي الطبيعي لمصر في إفريقيا.

المحطة الثانية: هي العدوان على العراق واحتلاله في عام 2003م وما نجم عن ذلك من تسلُّم الحوزات والقوى الشيعية لحكم العراق، وانسياب قطاعات من الأجهزة الأمنية الإيرانية الاستخبارية والعسكرية إلى العراق، وسيطرتها على معظم نقاط التأثير في الدولة العراقية، وتمتُّع المراجع الدينية الشيعية العربية والإيرانية بهامشِ تحرُّكٍ واسع المدى مستفيدين من المناخ الدولي المشجع على هذا الظهور والتحرك على أكثر من صعيد.

وبالترافق مع ذلك تبدو ثمة عوامل كثيرة مشجعة على دعوة شيعية ممتدة في بلدان إفريقيا تتغذى على ضعف المقابل السُّني عن تعزيز مكانته بإفريقيا، وتستحضر نقاط قوتها بسهولة في ظل غيابٍ لافتٍ للمعوقات، ومنها - على سبيل المثال -:

1 - الفقر والجهل اللذان تعانيان منهما القارة، ويفسحان المجال للنشاط الدعوي الشيعي القائم على منظومة متكاملة من العمل (الخيري) الطبي، والتعليمي، في بيئة تسمح بتمرير معتقدات شيعية خالصة باسم الإسلام لدى البسطاء ومحدودي الثقافة الدينية.

2 - الإفادة من انتهاء الحرب الإيرانية العراقية أواخر ثمانينات القرن الماضي في توجيه جزء من عوائد النفط إلى النشاط الدعوي بإفريقيا، واستغلال ارتفاع أسعار النفط أثناء حرب الكويت ثم العدوان على العراق وما تلا ذلك في ضخِّ أموالٍ تصرف على التشييع بإفريقيا.

3 - تراجع الدور السياسي العربي في إفريقيا، وقد بدا أن ثمة فجوةً إستراتيجيةً واضحةً خلَّفها هذا التراجع على الصعيدين (السياسي والاقتصادي) شجعت قوى إقليمية كالكيان الصهيوني وإيران على التمدد في هذا الفراغ، وهو أمر منطقي قد غاب ربما عن واضعي السياسات العربية في إفريقيا.

4 - استغلال حاجات الدول إلى مساندات سياسية واقتصادية وعسكرية مُلِحَّة: كحاجة السودان إلى كل ذلك في ظل علاقات لم تكن جيدة مع القاهرة أثناء فترة وجود الزعيم السوداني حسن الترابي في رأس السلطة السودانية.

5- الرضا (أمريكي - فرنسي) عن النشاط الشيعي في دول إفريقية ذات غالبية مسلمة؛ لا سيما نيجيريا و غانا و إريتريا و كينيا و السنغال... وغيرها.

6 - أحداث 11 سبتمبر 2001م وما نجم عنها من التضييق الدولي على قطاع العمل الخيري الخليجي (السُّني) وما يرافقه من نشاطات دعوية، وتخوُّفٍ كثيرٍ من المؤسسات الخيرية من دمج التوعية الدينية مع عملها الخيري إن وجد؛ خشيةً من تحميل نشاطهم أكثر مما يحتمل؛ لا سيما مع توافر أجواء تسمح بلصق تُهَم دعم الإرهاب به من قِبَل قوى دولية.

7 - ضعف دور الأزهر في إفريقياً بسبب انكفائه على الداخل وعدم حضوره لاعباً قوي في إفريقيا مثلما كان في الفترات التي سبقت شيخه الراحل، وعدم تقديم الدعم الكافي لدعاته (الموفدين أو الوافدين من الأزهر) إلى دول إفريقية، وعدم وضع الأزهر (منهجاً ودعوة وتعليماً) قضية التشييع على سُلَّم أولوياته؛ سواء في الداخل الجامعي أم الخارج الإفريقي.

8 - إقامة دول عربية علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني وهو ما سمح لحركة التشييع في الإفادة من خيبة أمل بعض المسلمين الأفارقة في تلك البلدان، وتهيئتهم لقبول (الفكرة الثورية الحسينية) الرافضة لممارسات تطبيعية مع الصهاينة.

9 - حرب لبنان 2006م وما واكبها من صناعة كاريزما خاصة بزعيم حزب الله اللبناني (حسن نصر الله )، وهو ما وفَّر بدوره شخصية أسطورية ثورية نجح الدعاة الشيعة في تجسيدها كمثال على التمرد الشيعي على (الخنوع الوهابي بنظرهم) للدول السُّنية، الذي أفرز الهزائم العربية أمام الصهاينة بينما نجح تنظيم (ثوري حسيني) في تحقيق (النصر) على الكيان الصهيوني.

10 - التفجيرات وأعمال العنف التي حدثت في أكثر من بلد إفريقي مثل تنزانيا وكينيا و الصومال والجزائر ونيجيريا المنسوبة إلى تنظيم القاعدة أو تنظيمات سُنية مشابهة، يُصرُّ الدعاة الشيعة بإفريقيا وغيرها على صدورها عن عناصر أخذت أفكارها من (الفكر الوهابي )، والبناء على ذلك ببعث رسالة إلى الحكومات والأنظمة والشعوب الإفريقية بأن البديل (الآمن) للفكر التكفيري العنيف، هو الفكر الشيعي ومعتقداته (السلمية ).

إن هذه المحطات ونقاطَ القوة تلك قد أفادت منها إيران كثيراً في تعزيز نفوذها بإفريقيا على الأصعدة الرسمية والشعبية، وفي مجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ونستطيع أن نرصد آلياتٍ استخدمتْها القيادة الإيرانية بصورة احترافية واعية أسهمت في صعود (المد الشيعي) في إفريقيا، وهو ما لا يمكننا تقديره بشكل دقيق في ظل صعوبة الوقوف على إحصاءات دقيقة تمكننا من حصر تعداد حركة التشييع في إفريقيا، وهو ما لا يمكن أن يتوفر أبداً؛ لا سيما إذا كان التقدير لطائفة تعتمد (التقية) و (الباطنية) اللتين تَحُولان دون حصرها بشكل واضح؛ إلا أنه بوسعنا تلمُّس آثارها؛ خاصة في بلدان بدا فيها التشييع ظاهرة واضحة لا نستطيع تجاهلها.

ولقد يمكننا تلمُّس بعض الآليات التي نجحت طهران والمرتكزات الشيعية الأخرى: كقم و مشهد و النجف و كربلاء... وغيرها في استعمالها لتوسيع رقعة التشيع في إفريقيا، ونلاحظ فيها أنه في حين تشترك كل محاولات التشييع في الدول الإفريقية في بعض آلياتها المعروفة؛ فإنها تختلف وتنفرد أحياناً في حالات بعينها.

وقبل استعراضها، فإن ثمة ملاحظةً بالغةَ الأهمية تتعلق بالإستراتيجية الإيرانية في إفريقيا، وهي أنها: لا تقتصر كليَّةً على الجانب الدعوي التشييعي، وإنما قد ترضى بقدر من التشييع السياسي - إن جاز التعبير - تارة، وقد تستعيض عن ذلك كله بتحقيق مصالح لها علاقة بإيران الدولة، أكثر ما تكون لإيران حامية الطائفة و (المذهب )؛ ولذا؛ فإن علاقة إيران بدول معيَّنة ربما لا توجد فيها إلا أقليات إسلامية ضئيلة العدد (أو حتى كبيرة) لا تتعلق أساساً بالرغبة في تغيير قناعات شعوبها الدينية، وإنما بالطبيعة الاقتصادية لها أو الموقع الإستراتيجي ونحو ذلك.

ولعل من أبرز تلك الآليات المشتركة:

- إقامة المستشفيات في الدول الفقيرة، كموريتانيا و غينيا و مالي... وغيرها.

- إقامة الجمعيات الأهلية المتعلقة بالمرأة (ويحمل كثير منها اسم (فاطمة الزهراء) ونحو ذلك ).

- نشر مجلات وقنوات فضائية أو إذاعية، وإقامة الاحتفالات الطائفية (الدينية) المتعددة بشكل علني والتسويق للمذهب عبر الاحتفاء بآل البيت، والتواصل الجيد مع المسؤولين في الدولة [3].

وتشترك كل الأنشطة الدعوية الإيرانية في إغراء السكان بالمال في قِطاع التعليم والصحة وغيره، كما تعتمد آليةَ الابتعاث إلى إيران وسوريا للنابغين من طلاب المعتقَد الشيعي.

وتتعدد الآليات المنفردة أو المقتصرة على بعض الدول دون غيرها، وأضرب لها أمثلة بما يلي:

1 - تمرير التشييع مستفيدة من علاقات عسكرية جيدة: كما في الحال الإرتيرية، وتجدر الإشارة إلى أن علاقة إريتريا بـ (إسرائيل) لم تَحُل دون تنامي هذه العلاقة، التي نجم عنها تشجيع للمؤسسات الشيعية للتوسع في هذا البلد المسلم، لكن الحماسة (الدينية) لنشر التشيع في إريتريا ظلت محكومة بعدم رغبة الإيرانيين في استفزاز أسمرة، ومن ثَمَّ تفويت فرصة إيجاد موطئ قَدَم بالقرب من مضيق باب المندب، والحضور العسكري الداعم لحركة التمرد في اليمن، ومن ثَمَّ لا نجد حركة التشييع مندفعة، ولكنها حاضرة في إريتريا بعكس دول أخرى لا تراعي تلك المحدِّدات الإستراتيجية.

2 - لم تنظر طهران إلى السودان كدولة تستطيع من خلالها تنمية علاقاتها الاقتصادية معها فحسب، بل ظلت تنظر إليها كدولة لها نفوذها الديني الإقليمي، وامتدادها العميق باتجاه الغرب الإفريقي والجنوب الساحلي معزَّزة بزخم تاريخي هائل، كانت كلمة (السودان) فيه تعني منطقة الحزام الأوسط لإفريقيا، ثم أضحت جسراً ثقافياً إسلامياً وعربياً إبَّان حكم أسرة محمد علي الألبانية بمصر؛ ولذا حرصت سلطة الملالي على نشر التشيع في السودان على نحو يكاد يتجاوز اهتمامها بتنمية علاقاتها الرسمية مع نظامها على الأصعدة (الاقتصادية والعسكرية والسياسية )، حتى بعدما صار السودان الآن الأعلى إفريقياً من حيث معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يسيل لعاب المستثمرين للمجيء إليه.

3 - الاهتمام الإيراني بقطاع ما يُسمى بـ (الأشراف) في مصر والسودان لا يكاد يجد نظيره في بلدان إفريقية أخرى لا يتوفَّر فيها هذا العدد الكبير الذي يعد بالملايين من (المنتسبين) إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - سواء كان حقاً أو باطلاً - وهو قنطرة لا يفوِّتها الملالي لنشر التشيع عبر العمل على اختراق هذه (النخبة) التي ليس لها تأثيرها العددي فقط، بل نفوذها السلطوي أيضاً في أكثر من مركز مهم من مراكز الدولة لا سيما في مصر؛ ولذا فإن التعاطي مع مسألة (الأشراف) قلَّ أن يوجد لها نظير في غير هاتين الدولتين الإفريقيتين الرئيستين.

4 - وكذلك لا تُغفِل سلطة الملالي في قم وطهران وغيرهما ما لمسألة حب آل البيت من أهمية لدى قِطاعات عريضة من الطرق الصوفية في مصر والسودان؛ فإنها تنظر بعين حادة إلى دولة كبيرة كنيجيريا ينتشر فيها التصوف و (محبة الأولياء) على الرغم من أن دولتها الإسلامية الرئيسة تاريخياً وهي مملكة عثمان بن فودي، قامت (على أجزاء كبيرة منها وكذا أجزاء من النيجر وغانا) متأثرةً بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (العدو التقليدي للشيعة الإمامية )، وهو ما يعطي بدوره دفعة إضافية لنشر التشيع في منطقة لم تزل بعض تياراتها متأثرة بدعوته، رحمه الله.

5 - استغلت طهران العلاقة الوثيقة التي تربط بعض مستثمري لبنان من الطائفة الشيعية بالاستخبارات الفرنسية في تمهيد الطريق لنشر التشيع في دولة كالسنغال، كما أنها لاحظت المستقبل المنظور لدولة اقتصادية واعدة كغانا، والماضي الممتد اتساعاً على رقعة تأثيرية كبيرة في الغرب الإفريقي يعززها تاريخ إمبراطورية غانا الكبيرة في ضخ أموال في مجال القطاع التعليمي الشيعي إليها، وإنشاء (الجامعة الإسلامية) فيها، وهي التي خرَّجت أكثر من خمس دفعات حتى الآن لنشر التشيع في الداخل والمحيط الإقليمي.

6 - عمدت طهران إلى مد جسورٍ مع الأقلية المسلمة في جمهورية جنوب إفريقيا هادفة إلى إيجاد (لوبي شيعي) في تلك الدولة التي يحاول الغرب تهيئتها لتكون الدولة القائدة الأولى في إفريقيا عبر سلسلة من الفعاليات والإجراءات، وتفيد سلطة الملالي من وجود أقلية هندية بين مسلميها يمكن من خلالها التواصل مع مراكز هندية شيعية.

7 - لم تهمل الدوائر العاملة على نشر التشيع في الشمال الإفريقي الزخم الذي صاحب حرب لبنان عام 2006م في السعي لنشر فكرة (الثورة الحسينية) في أوساط متحمسة للقضية الفلسطينية في دول كالجزائر والمغرب تشهد عادة أكبر حشود من المظاهرات ضد (إسرائيل) أثناء المعارك التي خاضتها قوى المقاومة أو (حزب الله) مع الكيان الصهيوني، كما أن تلك الدوائر لا يمكنها أن تتجاهل الدول والممالك الشيعية - ولو خالفت في أصول الطائفة نوعاً مَّا كالإسماعيلية - التي قامت في الماضي ونجحت في التوسع وإقامة إمبراطورية كبيرة كالعبيديين (المسمين بالفاطميين) لدغدغة مشاعر بعض المغاربة الذين قد يروق لهم النظر إلى دولة متمكنة شاسعة كالعبيدية بقَدْر من التقدير.

كما أنه لا يمكن التغاضي عن مسألة الشعور بـ (المظلومية) في منطقة القبائل الجزائرية لإنعاش المشاعر الشيعية القديمة لدى بعض الأمازيغ، الذين ينتشر لديهم الآن التشيع والتنصير جنباً إلى جنب بشكل لافت للنظر.

8 - أفادت طهران من (تسامح) بعض الجماعات الإسلامية (السلمية) إزاء مسألة التشيع حتى بين صفوف بعض عناصرها أو إعجابها بشخصيات تدَّعي المقاومة من الطائفة الشيعية في تجنيد شخصيات نخبوية إسلامية لا سيما في مصر وتونس.

9 - هيأت بعض مجموعات العنف في الجزائر وموريتانيا وجنوب الصحراء (لا سيما في مالي والنيجر ونيجيريا) المناخَ المناسب لتقديم مسوِّقي الفكر الشيعي بضاعتهم كبديل لأفكار (العنف والإرهاب والتشدد والتكفير والوهابية) على حد تعبير الأدبيات الشيعية، كما شجعت دولاً (استعمارية) تقليدية كبريطانيا و فرنسا، وحديثة كالولايات المتحدة على القبول بالتشيع كبديل لتلك الأفكار، لا ينتج عنفاً موجَّهاً إليها [4].

10 - تحاول إيران الإفادة من العلاقات الوثيقة التي تربطها بالصين في العبور من خلالها إلى السوق الإفريقية الواعد، وهي بذلك تسعى إلى مزاوجة التشييع بالاقتصاد وتوفير فرص عمل لمن يُسمَّون بالمستبصرين وهم المتشيعون، أو أولئك الواقعون تحت تأثير الدعوة الشيعية.

وخلاصة القول:

إن حركة التشييع ماضية على قدم وساق في إفريقيا، مشفوعةً بعدد من العوامل المساندة لها وهو ما وفَّر لها أعداداً تتحدث بعض المصادر كصحيفة (الشرق الأوسط) أنها 7 ملايين في الغرب الإفريقي، ومليون في غانا وحدها وَفْقاً لتقرير صادر عن بعض دعاتها السُّنة، وبعضها تتحدث عن عدة آلاف في الجزائر (1700 وَفْقاً للكاتب والباحث رضا مالك )، وفي تنزانيا وغينيا و تونس والسودان وكينيا ومصر وغيرها (طبقاً لمصادر أوردتُها تفصيلياً في كتاب خريطة الشيعة في العالم )، وجُزُر القُمُر و إرتيريا وجنوب إفريقيا.

وتلك العوامل يغذيها التراجع السُّني على الأصعدة (السياسية والعلمية والخيرية )، كما أن كثيراً من المؤسسات الإسلامية الناشطة في هذا المجال تفتقر إلى التخصص والوعي بطبيعة المرحلة الراهنة ومحدداتها الحاكمة، كما لا يمكن تحميلها كامل المسؤولية؛ لأنه في الحقيقة لا يمكن لمؤسسات صغيرة أن تواجه مجهودات دولة كبيرة ومؤثرة كإيران.

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)


 (1) ستيفن هانسن، الأموال تتجه إلى إفريقيا، موقع الرؤية الاقتصادية المتخصص: 10 / 7 / 2010م.

(2) باستثناء فترة الصحابي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

(3) في إفريقية الآن رئيس إفريقي شيعي هو رئيس جمهورية جُزُر القُمُر، وثلاثة وزراء في غينيا، إلى جانب عدد من المسؤولين في دول إفريقية أخرى، وآخرين من السُّنة تقيم معهم علاقات متميزة.

(4) وهي لا تمانع بالمناسبة في عنف موجَّه إلى المسلمين أنفسهم مثلما لم تمانعه في العراق وغيره، مثلاً.

 

أعلى