• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
رحيل جونسون.. هل استفاق الغرب من غفوة الشعبوية؟

لطالما كان خصوم جونسون يرون أنه غير جدير بتولي المناصب العليا في البلاد، وقد وصفه نائب رئيس الوزراء السابق، نك كليغ، بأنه: "دونالد ترامب، لكن معه قاموس"، وهذا الوصف على بساطته ليس ببعيد عن جوهر الحقيقة، فالراجلان لا يتشابهان في الشكل ولون الشعر فقط، بقدر


حين أتت الصناديق يومًا بدونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، لم يكن الأمريكيون يعتقدون أن رئيسهم الشعبوي القادم من عالم الترفيه، سيحدث تغييرًا واضطرابًا في بلدهم القائم على خطوط سياسية شبه ثابتة، بل إنه أحدث اضطرابًا في العالم أجمع، صفع القيم الديمقراطية التي دأب الغرب على ترديدها، وسخر من حقوق الإنسان والحريات، تبنى خطابًا إقصائيًا وتفوّه بما أراد دون أن يحتسب تبعاته حديثه، وحين أتى موعد رحيله حاول التشبث بالمنصب حتى آخر لحظة، أبى أن يمر الأمر بسلاسة دون أن تحدث سابقة خطيرة بالحياة السياسية الأمريكية، حيث اقتحم أنصاره جلسة الكونغرس التي كانت معدّة للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، وتأكيد فوز سلفه جو بايدن، في بريطانيا التي يفصلها المحيط الأطلنطي عن أمريكا، كان شبيه ترامب، بوريس جونسون، يحاول التشبث أيضا بمنصبه كرئيس للوزراء، لدرجة أنه شبّه عزمه على التمسك بالمنصب بعزم الجندي الياباني هيرو أونودا، الذي اختبأ في غابات بلاده لأعوام، رافضًا قبول استسلام اليابان قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، زعم جونسون أن لديه تفويضًا مباشرًا من الناخبين البريطانيين كي يقود حكومتهم، لكن كان على زملائه النواب من حزبه والأحزاب الأخرى أن يذكروه بأن بريطانيا دولة ذات نظام برلماني، وليست ذات نظام رئاسي!

شهدت المملكة المتحدة خلال الأشهر القليلة الماضية حالة من القلق السياسي، كان الجميع يترقب اللحظة التي سيخرج فيها جونسون، البالغ من العمر 58 عامًا، ليعلن وداعه للحياة السياسية البريطانية، الاستقالات العديدة في حكومته كانت كفيلة بتعجيل هذا القرار، إلا أنه فضّل الانتظار حتى اللحظة الأخيرة، حتى أُجبِرَ على الاستقالة بعد أن تخلى عنه أقرب أنصاره، وبات على يقين أنه لم يعد يتمتع بالأغلبية البرلمانية التي تسمح له بالاستمرار في قيادة حزب المحافظين الذي يحكم بريطانيا منذ 12 عامًا، كانت سلسلة الفضائح التي حاول جونسون التعتيم عليها أو إيجاد السبل للفرار من المسؤولية عنها هي القشة التي قصمت ظهره، قام جونسون بازدراء الإجراءات الحكومية وكسر القواعد الاحترازية المتعلقة بالوباء عبر إقامة الحفلات في مقر إقامته، وُرِفَت هذه الفضيحة بـ " بارتي جيت"، كما قام بتعيين نائب سابق بحكومته بالرغم من معرفته بفضائحه الأخلاقية السابقة، وعندما سُئل عن الأمر أنكر معرفته بذلك، وبعدما تكشفت الحقائق وأنه كان على إطلاع بتلك الفضائح، تحجج بأنه قد نسيها، هذا إلى جانب شبهات الفساد التي لاحقته بسبب تجديد مقر إقامته والذي تكلّف أكثر من 280 ألف دولار. حين تم تضييق الخناق عليه، لم يعد بإمكان جونسون المواجهة ولم يعد بإمكان حزبه تحمله، وبينما كانت تعصف به موجة من الاستقالات بحكومته، كانت الانتقادات تسدد إليه من حزبه قبل الأحزاب الأخرى، لدرجة أن ساجد جافيد، وزير الصحة في حكومته، قد علّق على تمسك جونسون بالمنصب، بقوله "لقد طفح الكيل"، الغريب أن الفضائح دائما ما كانت تقف وراء تركه للمناصب السياسية، فقد سبق وأن استقال من منصبه كوزير للدولة مكلفًا بالفنون في عام 2004، كانت الاستقالة بعد فضيحة إحدى علاقاته الغرامية، كما سبق وأن أُقيل من صحيفة التايمز بعد اتهامه بعدم الدقة في نقل التصريحات.

بخطاب استقالة بسيط، ألقى جونسون اللوم على الجميع، منهيًا فترة حكمه المضطربة التي دامت 3 أعوام، جونسون الذي بدأ حياته العملية كصحفي في "ديلي تلغراف"، ثم مديرًا لتحرير صحيفة سبيكتيتور عام 1991م، اعتبر أن سوء حظه في رئاسة الوزراء وخيانة زملائه في الحزب هو ما أوصله للوضع الراهن، قبل أن يستدير فجأة ويختفى خلف الباب الأسود الشهير لـ 10 داوننغ ستريت، مقر إقامة رئيس الوزراء البريطاني، سيبقى جونسون في منصبه حتى سبتمبر المقبل، حيث سينتخب حزب المحافظين زعيمًا جديدًا ليحل محله، ربما لن يذكره التاريخ البريطاني على أنه رئيس وزراء ذو أهمية كبرى أو تأثير عميق، بالرغم من كونه قائد حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما تراكم لاحقًا من أضرار اقتصادية تزداد مع مرور الوقت، كانت إدارته تتسم بالفوضوية أحيانا، صحيح أنه نجح في تفعيل برامج التلقيح ضد كورونا، ونجح في إنجاز البريكست بغض النظر عن تبعاته، إلا أن أجندة سياسته الداخلية، وخاصةً في جانبها الاقتصادي، كانت مهلهلة في الأغلب وغير مترابطة، تصريحاته المتواصلة الناجمة عن خلفيته الشعبوية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، تدل على أنه يفتقد للكثير من الحصافة السياسية والتكتيك الاستراتيجي، صحيح أن هذه التصريحات كانت تلقى دعمًا أوكرانيًا، لدرجة أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي وصفه عقب استقالته من حزب المحافظين، بأنه "بطل"، إلا أن بطولة التصريحات غير كافية في عالم اليوم، ففي غياهب السياسة المعقدة، قد لا تنجح حيل التصريحات والاستعراض السياسي دائما.

حين فاز جونسون برئاسة الوزراء، أسفر هذا الفوز عن حملة استقالات عديدة في حزب المحافظين الذي كان منقسمًا بشدة، والغريب أنه وهو على وشك التخلي عن نفس المنصب، يثير الانقسامات أيضا داخل صفوف الحزب المضطرب،  لطالما كان خصوم جونسون يرون أنه غير جدير بتولي المناصب العليا في البلاد، وقد وصفه نائب رئيس الوزراء السابق، نك كليغ، بأنه: "دونالد ترامب، لكن معه قاموس"، وهذا الوصف على بساطته ليس ببعيد عن جوهر الحقيقة، فالراجلان لا يتشابهان في الشكل ولون الشعر فقط، بقدر ما تتماهي تصريحاتهما الشعبوية وسياساتهما المثيرة للجدل، فعلى خطى ترامب كان جونسون معروفًا بتصريحاته المثيرة، وميله إلى التهكم والسخرية والنقد الحاد، كان لافتًا أنه يحب الإثارة والاستعراض، وكثرة الكلام لا تأتي سوى بكثرة الزلل، لذا فإن تصريحاته المحرجة لا تعد ولا تحصى، لعل أخرها كانت تصريحاته عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قال عنه "لو كان بوتين امرأة .. لما وقعت الحرب"، وهو تصريح لاقى انتقادًا واسعًا وسخرية وصفها البعض بالغبية والساذجة، وسبق وأن وصف المرشحة السابقة للانتخابات الرئاسية الأمريكية "هيلاري كلينتون" بـ "ممرضة سادية تعمل في مصحة للأمراض العقلية"، وقال إن الأصول الأفريقية للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، جعلته يكره تراث بريطانيا وتاريخها، كما وصف الاتحاد الأوروبي بأنه "مشروع زعيم النازية، أدولف هتلر الذي حاول إنشاء دولة أوروبية واحدة".

لا عجب إن علمنا أن ترامب كان هو أول المهنئين لجونسون حين فاز برئاسة الحكومة، قال ترامب حينها عن جونسون أنه "سيكون عظيمًا"، الأكثر إثارة في مسألة التشابه بين الرجلين أن رحيلهما قد أحدث نفس الحالة من الارتياح في الكثير من العواصم والأوساط السياسية، لم يستطع الرئيس جو بايدن أن يذكر اسم جونسون بالنص في بيانه الذي أصدره عقب استقالة الأخير من رئاسة حزبه، تحدث بايدن عن العلاقة الخاصة والوطيدة التي تجمع بلاده بالمملكة المتحدة، إلا أن مجمل البيان كان يعبّر عن الارتياح حيال التغيير، وصف بايدن جونسون ذات مرة بأنه "نسخة جسدية وعاطفية من ترامب"، وهذا كاف جدا لمعرفة كيف تنظر الإدارة الأمريكية الحالية لجونسون، لكن ما لم يقله بايدن، قاله برونو لومير، وزير المالية الفرنسي، الذي قال صراحةً: "لن نفتقده، ولنتذكر دائمًا أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي كان مختلطًا بالشعبوية، لا يصب في مصلحة الأمة البريطانية"، كانت الخشية الكبيرة لدى البعض من أن يتمسك جونسون بالسلطة مثلما فعل ترامب، في النهاية رحل جونسون بهدوء دون أن يُحدث ضجة كبيرة في الحياة السياسية البريطانية المعروفة برصانتها، لم يكن هناك حشود غاضبة تقتحم البرلمان، ولم تكن هناك انتخابات كي يدعي تزويرها لصالح خصومه.

يعدّ جونسون من الداعمين بقوة للاحتلال الصهيوني، منذ أن تطوع يومًا في "كيبوتس كفار هنسي" وُلِدَ ارتباطه بالكيان الإسرائيلي وبدأ حبه له، وحينما تولى رئاسة بلدية لندن، أظهر التزامًا قويًا بحماية الجالية اليهودية في لندن، في المقابل يرى الإسرائيليون فيه صديقًا حميمًا، دأبت الصحف الإسرائيلية على وصفه بـ "الصديق الحميم الذي يحب إسرائيل"، باستقالته يمكن للقضية الفلسطينية أن تنتظر وجهًا جديدًا، قد يكون على أقل تقدير محايدًا أو غير مندفع في مناصرته للاحتلال، لقد آن لشمس لندن أن تشرق بعد أن تخلصت المدينة من أحد أبرز كوابيسها، لقد رحل بوريس جونسون الذي جسّدَ بإتقان إحدى صور الشعبوية الترامبية في مدينة الضباب.

أعلى