• - الموافق2025/07/29م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
خريطة سوريا تتغير من السويداء..  لماذا المعركة هناك أخطر مما نتصور؟

ما حدث في السويداء لم يكن مجرد اشتباك محلي في محافظة جبلية صغيرة، بل هي فصل مفصلي في إعادة تشكيل المشهد السوري سياسيًا وطائفيًا واستراتيجيًا. وما يجري هناك ليس شأنًا درزيًا داخليًا، بل اختبار علني لمستقبل السلطة والسيادة السورية


في جنوب سوريا، لا تُرسم الخرائط بالمداد بل بالدم. ما جري في السويداء ليس تمرّدًا محليًا ولا خلافًا طائفيًا عابرًا، بل أخطر تحدٍ جيوسياسي يواجه الدولة السورية منذ اندلاع الحرب. فعند تخوم جبل العرب، تندمج مشاريع الخارج بطموحات الداخل، ويُختبر مدى صلابة الدولة في وجه التآكل البطيء والتدخل المكشوف. خلف خطاب الحماية وحقوق الأقليات، تختبئ خناجر التقسيم، وتحوم طائرات العدو فوق أرض يُراد لها أن تُجتزأ لا أن تُحرر. من السويداء تبدأ الحرب على سوريا، إما مقاومة ذكية تستعيد السيادة، أو تآكل صامت يقضم الجغرافيا والهوية معًا.

في قلب المنطقة الدينية والسياسية الأكثر تعقيدًا في الشرق الأوسط، تبرز مرجعية الشيخ حكمت الهجري عند الدروز السوريين، بوصفها ما يشبه دور المرجع السيستاني عند الشيعة: سلطة روحية تمتد عميقًا إلى بنيان المجتمع الدروزي، بما في ذلك داخل جيش الكيان الصهيوني نفسه. وهنا يكمن التفسير: إسرائيل لا تتبنّى دعم دروز السويداء انطلاقًا من تعاطف عروبي، بل خوفًا من تفكّك العمود الفقري لهذا الجيش الذي يستخدم الدروز كأداة استراتيجية على جبهتي غزة ولبنان.

الهجري: بين المرجعية الروحية والمشروع الانفصالي

منذ اندلاع أحداث السويداء في سوريا، تصاعدت التوترات انطلاقًا من صدامات بين اللجوء الدرزي القروي والقبائل البدوية المدعومة من النظام الجديد، تبعتها تدخلات كبرى من إسرائيل، شملت ضرب مواقع قيادية في دمشق والسويداء، معلنة سعيها لحماية الدروز، خشية أن يتعلق الولاء الدروزي بسوريا وحضارتها البرجوازية المتداعية. 

هذه العملية لم تكن مجرد رد عاطفي، بل استراتيجية محكمة: الدروز في كيان الاحتلال يشكّلون نسبة عالية من ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي، وهم وحدة محورية في المناطق الحدودية وتقييم التهديدات. دعم الدولة لهم في السويداء هو أشبه بضمان عدم تآكل هذا الدعم الداخلي أو انشقاقه. 

الجدل الداخلي داخل المجتمع الدرزي يشتد: فبينما يعبر شيخ مثل الهجري عن تأييد الحذر والحياد، يرى الزعيم اللبناني وليد جنبلاط أن إسرائيل تستخدم الدروز كأداة سياسية ضد الفلسطينيين وضد الدولة السورية، قائلًا: "الصهاينة يستخدمون الدروز لقمع الفلسطينيين وتوسيع النفوذ في جبل العرب" أي السويداء. 

 

الاتفاق الذي رعته واشنطن لم يكن سوى خدعة تهدف لتوفير غطاء لميليشيا الهجري للسيطرة على المحافظة وطرد البدو ومكونات اجتماعية أخرى، تمهيدًا لإقامة كيان انفصالي تحت رعاية أمريكية وإسرائيلية

لكن الأكثر وضوحًا أن الهجري يلقى دعْمًا صريحًا من "موفق طريف"، المرجع الدرزي في إسرائيل، الذي دعا الكيان للتدخل العسكري الفوري لحماية الشعب الدروزي في سوريا، مبررًا ذلك بضرورة الحفاظ على التحالف الداخلي الإستراتيجي. 

إسرائيل من خلال ضربة جوية واحدة أو إطلاق قوات من الحدود ترسل رسالة مبطنة: من يعبّر عن ولائه لنا، نضمنه أداة لاستقرارنا؛ ومن يُقاوم، يُقصى ويتهم بالتمرد. وهكذا، الدعم الدرزي في الداخل يتحول إلى شريان سياسي، ودعم محدود في الخارج يصبح محاولة لمنع ولادة جبهة داخلية تُهدد تماسك الدولة.

الهجري عند الدروز السوريين ليس مجرد شيخ، بل رمز سياسي ممنوع تجاوزه، مشاركة مستترة في لعبة تحتاج إلى ولاءات، وليس احتجاجات.

والدروزي الإسرائيلي، في المقابل، ليس مجرد مواطن، بل عين وآذان الدولة داخل الجزيرة الشعبية المترامية.

كل ما سبق يعزز فكرة أن دعم الكيان الصهيوني للدروز ليس شفقة ولا نصرة، بل حساب: حماية العمود الخلفي وتجنب تفتّت النظام الأمني من الداخل. وإذا تزامنت هذه التوريطة مع فرصة عسكرية لاحتلال عاصمة عربية، فالأمر (في نظرهم) هو فائدة مزدوجة.

دروز إسرائيل والجيش الصهيوني: الولاء العابر للحدود

معركة السويداء ليست مجرد اشتباك محلي في محافظة جبلية صغيرة، بل هي فصل مفصلي في إعادة تشكيل المشهد السوري سياسيًا وطائفيًا واستراتيجيًا. وما يجري هناك ليس شأنًا درزيًا داخليًا، بل اختبار علني لمستقبل السلطة والسيادة السورية في مواجهة الداخل المنقسم والخارج المتربص. فإما أن تنجح الدولة السورية في فرض سيادتها مجددًا، أو تدخل نفق التفكك التدريجي من الأطراف نحو المركز.

هذا ما أشار إليه تقرير صادر عن Atlantic Council حين اعتبر أن خيار الحكومة في التنسيق مع المشايخ الوطنيين من أبناء السويداء يشكل حائط صد أمام التدخل الإسرائيلي والتمرد المحلي معاً، لكنه اختبار محفوف بالمخاطر إذا لم يترافق مع قدرة على احتواء الغضب الشعبي وتنظيم القوة المحلية.

وفي قلب هذا الصراع، يجري تغييب ممنهج لمعاناة المدنيين، حيث ارتكبت الميليشيات المسلحة الموالية لحكمت الهجري انتهاكات موثقة بحق السكان المحليين، شملت مجازر ميدانية، وتعذيبًا ممنهجًا لمعتقلين مقيدين فقط بسبب هويتهم، إضافة إلى تهجير قسري لأحياء بأكملها في السويداء ومحيطها.

وعلى الرغم من حجم هذه الجرائم، لم يصدر أي تنديد من المنظمات الحقوقية الدولية، ولا بيانات من مراصد حقوق الإنسان، ولا حتى تغريدة واحدة من أولئك "الناشطين" الذين ملأوا الدنيا صراخًا عندما كانت رواية الحدث تُناسب ميولهم. تلك المشاهد لن تراها لا على الشاشات الغربية الناطقة بالعربية، ولا على القنوات الغربية الناطقة بالإنجليزية، ولن تكون "ترندًا" على الإطلاق.

انكشاف الرهان الرسمي لا يعني فقط إرسال إشارة للداخل السوري، بل رسالة إقليمية أيضًا. فكل تلك التحركات تجري تحت سقف طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، التي لم تغادر أجواء الجنوب، وتحديدًا فوق الجولان المحتل.

لقد تحوّل "ملف الدروز" إلى أداة تستخدمها تل أبيب لكبح يد دمشق ومنع جيشها من التمركز في مناطق تُعدها إسرائيل مناطق نفوذ حيوي. كتب الصحفي الإسرائيلي شمعون شيفر في يديعوت أحرونوت: "الدروز هم الحلقة الأضعف الأقوى؛ لهم امتداد داخل جيش إسرائيل، وفي نفس الوقت امتداد داخل العمق السوري. التلاعب بهذه الورقة يسمح لتل أبيب بتحقيق أكثر من مكسب دفعة واحدة".

 

إن القراءة المتأنية لتطورات السويداء تكشف أن الصراع الحالي يعكس انتقال إسرائيل من "الردع عبر الحدود" إلى "التفكيك عبر الداخل"، عبر رعاية مرجعيات محلية وتحويلها إلى سلطات موازية

هذا التوظيف الخارجي للملف الطائفي يتقاطع مع انقسام داخلي حاد داخل البيت الدروزي، إذ انفرط عقد المرجعية التقليدية منذ سنوات، لكن التصعيد الأخير عمّق هذا الانقسام، ورفع سقف الاستقطاب إلى درجة تهدد بشرخ دائم.

ففي حين يتمسك شيخ العقل حكمت الهجري بخطاب متمرد، ورفضه العلني لأي تنسيق مع الحكومة السورية حيث قال في خطابه في يوليو 2024: "نرفض أي اتفاق لا يمثل طائفتنا، وسنقاوم حتى التحرير الكامل" فإن الزعامات الدينية الأخرى مثل يوسف جربوع وحمود الحناوي تنحو منحى آخر، داعية إلى التهدئة، و"التمسك بسوريا الوطن الذي يحفظ للكل حقوقه دون الحاجة للسلاح أو التحالفات الأجنبية"، على حد تعبير الشيخ الحناوي.

وقد انعكس هذا التناقض مباشرة في الميدان، حيث ظهرت التشكيلات المسلحة المرتبطة بالحراك المحلي، تحت شعارات "الحفاظ على كرامة السويداء"، مقابل وحدات محلية داعمة للجيش تعمل على حماية المؤسسات والمقار الرسمية.

صحيفة الشرق الأوسط نشرت تقريرًا في 1 يوليو 2025 جاء فيه: "الانقسام بين المشايخ لا يهدد فقط وحدة الطائفة، بل يعطي ذريعة لقوى خارجية لتقديم دعم مالي وتسليحي مباشر لبعض الأطراف، ما يفتح الباب أمام تفتيت السويداء كما حدث في درعا والرقة سابقًا".

لم يكن مستغربًا، إذن، أن تتغير لهجة الرئيس السوري أحمد الشرع نفسه، الذي لطالما تمسك بخطاب دبلوماسي في مخاطبة القوى الإقليمية، ليصدر تصريحًا لافتًا غير مسبوق، بعد سلسلة اعتداءات إسرائيلية على مواقع في دمشق والسويداء، قال فيه: "نحن على أهبة الاستعداد للقتال من أجل كرامتنا، ولسنا ممّن يخشون الحرب، فقد قضينا أعمارنا في مواجهة التحديات. لم تعد الدبلوماسية وحدها تجدي نفعًا، فإسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة".

هذا التحول في نبرة رأس الدولة يعكس أن المعركة تجاوزت حسابات التكتيك إلى مصير الدولة نفسه. فكل تأخير أو فشل في الحسم، قد يطلق سلسلة من الاقتتالات الطائفية، تكون الأقليات وقودها، خاصة في ظل ما أشار إليه الباحث السوري عبد الرحمن الحاج في مقالة بموقع عين على الشرق: "إذا شعرت الأقليات أن الدولة تتراجع أو تتقاسم السيادة مع فصائل محلية، فإنها ستسعى لحلول منفصلة، وهذا أخطر من الفيدرالية أو الانفصال؛ إنه تفكك داخل النسيج الواحد".

الأخطر من ذلك هو موقف الأغلبية الصامتة، أي القاعدة السنية التي عانت من الحرب والانهيار، لكنها تراقب المشهد الحالي بعيون حذرة. فإذا شعرت بأن الدولة تخضع لضغوط طائفية أو خارجية في الجنوب، فقد تتغير معادلة الصبر.

الانقسام داخل البيت الدرزي: صراع المرجعيات أم صراع المصير؟

الباحث اللبناني رضوان السيد صرّح لمجلة الحوار العربي في عددها الأخير: "الحكم في دمشق الآن أمام لحظة شبيهة بلحظة 2011 مع فارق أن الشعب تعب، لكنه لم يمت. القرار الحاسم في السويداء قد يوقظ إحساسًا بالخذلان أو الفخر، وهذا فارق بين دولة باقية ودولة تتآكل".

تزامن ذلك مع تزايد النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي الأردني حول جنوب سوريا، وتوسع نشاط المخابرات الغربية في مناطق التماس مع درعا والسويداء، بحسب ما كشفته وثائق نشرتها HuffPost España، التي اعتبرت أن: "التدخل الإسرائيلي في ملف الدروز ليس وليد اللحظة، بل هو استمرار لخطة طويلة هدفها تهيئة الجنوب السوري ليكون منطقة فصل آمنة بغطاء محلي وطائفي".

يرى الدكتور رفيق عبد السلام، وزير الخارجية التونسي الأسبق، أن ما يحدث في السويداء الآن يثبت أن الاتفاق الذي رعته واشنطن لم يكن سوى خدعة تهدف لتوفير غطاء لميليشيا الهجري للسيطرة على المحافظة وطرد البدو ومكونات اجتماعية أخرى، تمهيدًا لإقامة كيان انفصالي تحت رعاية أمريكية وإسرائيلية. ويُحذر عبد السلام من أن استمرار الركون للوعود الأمريكية هو قصور في الوعي وخضوع عملي لمشروع "إسرائيل الكبرى"، داعيًا السوريين إلى تحرك حاسم وجماعي لبسط السيادة وضرب يد الخونة قبل تفاقم الخطر.

السويداء كنموذج: هل تنجح الدولة السورية في استعادة السيادة؟

في ضوء تعقيدات المشهد في السويداء، يتضح أن ما يجري ليس أزمة محلية قابلة للاحتواء السريع، بل اختبار مركّب لطبيعة الدولة السورية وحدود سيادتها، في مرحلة ما بعد الحرب. إذ تتقاطع في هذه البقعة الصغيرة ملفات كبرى: المشروع الإسرائيلي لتفكيك البنية الأمنية للمحيط، الدور الأمريكي في إعادة هندسة الجغرافيا السياسية عبر الأدوات الطائفية، هشاشة المؤسسات المركزية في دمشق، والانقسامات البنيوية داخل المجتمع السوري نفسه.

إن القراءة المتأنية لتطورات السويداء تكشف أن الصراع الحالي يعكس انتقال إسرائيل من "الردع عبر الحدود" إلى "التفكيك عبر الداخل"، عبر رعاية مرجعيات محلية وتحويلها إلى سلطات موازية، وتوظيف الغطاء الغربي الحقوقي والسياسي كأداة لإضعاف المركز. وفي المقابل، فإن موقف الدولة السورية اليوم لن يُقاس فقط بقدرتها على استعادة الأمن، بل بقدرتها على إنتاج عقد وطني جديد، يُنهي منطق الرعايا ويُعيد الجميع إلى منطق المواطنة.

لذلك، فإن الحسم العسكري وحده لا يكفي، كما أن الحوار الفارغ بلا سيادة لا يُجدي. المطلوب مقاربة سيادية ذكية، تقوم على استعادة زمام المبادرة سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا، وتفكيك شبكات الدعم الخارجي للتمرد من دون الانزلاق إلى منطق الانتقام أو الإلغاء. فإما أن تنجح دمشق في تحويل معركة السويداء إلى نقطة استعادة للتماسك الوطني، أو تُكتب بداية فصل جديد من التفكك الممنهج، هذه المرة من الداخل لا من الحدود.

وفي تطور لافت تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ إسرائيل بعد أن أخمدت العشائر البدوية تمرد جماعة حكمت الهاجري، الزعيم الدرزي الموالي للاحتلال، وذلك رداً على المجازر التي ارتكبت بحق السكان البدو في المدينة. هذه التحركات المفاجئة أجبرت تل أبيب على القبول باتفاق لوقف إطلاق النار رعته واشنطن، وشاركت في تبنيه كل من الحكومة السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، والحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو، بدعم إقليمي من تركيا والأردن ودول الجوار.

الاتفاق نصّ على دخول قوات من الجيش والشرطة السورية إلى السويداء، في خطوة غير مسبوقة منذ الإطاحة بالنظام السابق قبل أكثر من سبعة أشهر. وكان أحد الأسباب المباشرة لقبول إسرائيل بهذا الاتفاق هو التقدم السريع لقوات العشائر نحو المدينة، وخشية وقوع اشتباك مباشر مع وحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة قرب الجنوب السوري. مصادر مطلعة أكدت أن مطلبًا إسرائيليًا مباشرًا نُقل إلى واشنطن ثم إلى دمشق يدعو إلى ضبط العشائر ومنعها من الاشتباك مع قوات الاحتلال في المنطقة.

هذا التطور يعكس حجم التماسك الشعبي والقدرة المجتمعية للعشائر السورية على حماية نفسها وتنظيم صفوفها، حتى في غياب سيطرة الدولة المركزية. وهو ما يقلق إسرائيل والولايات المتحدة معاً، لأن هذه البنية القتالية غير النظامية لا يمكن احتواؤها عبر الضربات الجوية أو السيطرة على مقرات ثابتة. فالعشائر، مثل المقاومة الفلسطينية، تتحول بسرعة إلى نمط حرب العصابات، ما يضعف فعالية جيش الاحتلال الإسرائيلي المعتمد أساسًا على الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة والقصف الجوي.

أعلى