ما نشهده اليوم ليس إلا محطة على طريق طويل ومعقد لـ "الشرق الأوسط الجديد" الذي تريده الولايات المتحدة ودولة الكيان وما زال حلمًا مشروطًا بمتغيرات محلية وإقليمية ودولية.
منذ بداية القرن الحادي
والعشرين، تبنت الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الكيان الصهيوني تصورًا
استراتيجيًا تحت مسمى "الشرق الأوسط الجديد"، وهو مشروع تضمن إعادة تشكيل الخريطة
السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية للمنطقة بما يخدم مصالحهما
الاستراتيجية، هذا المشروع الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ليطال البنية الفكرية
والهوية الوطنية للدول العربية، من خلال أدوات متعددة: التدخلات العسكرية، ودعم
الحركات الانفصالية، وهندسة "الفوضى الخلاقة"، وتوظيف أدوات القوة الناعمة.
لكن، وبعد ما يزيد على
عقدين من التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة بدءا من الغزو الأمريكي للعراق
(2003)، إلى الربيع العربي، وصعود وسقوط داعش، ثم اتفاقيات إبراهام التطبيعية، وحرب
الإبادة على غزة (2023 - 2024 - 2025) يُطرح السؤال بجدية: هل نجحت أمريكا وحليفتها
الصهيونية في تحقيق رؤيتهما للشرق الأوسط الجديد؟ أم أن الواقع جاء على عكس ما
أرادوه؟ وما الذي ينتظر المنطقة في المستقبل القريب؟
أولًا:
ملامح "الشرق الأوسط الجديد" وفق الرؤية الأمريكية-الصهيونية.
تقوم هذه الرؤية على
مجموعة من الركائز:
1. تفكيك الدول المركزية
(مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا) إلى كيانات طائفية أو إثنية ضعيفة.
2. إضعاف الهوية القومية
العربية واستبدالها بهويات فرعية (طائفية، إثنية، قبلية).
3. دمج دولة الكيان
الصهيوني في المنطقة وتطبيع العلاقات معها سياسيا وأمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا
وثقافيًا دون الحاجة لحل القضية الفلسطينية.
4. احتواء (محور الشر)
إيران من وجهة نظرهم وإعادة ترتيب توازن القوى الإقليمي بما لا يهدد الهيمنة
الصهيو-أمريكية.
5. إعادة تشكيل الاقتصاد
الإقليمي وفق نموذج نيوليبرالي يخدم مصالح الشركات الغربية الكبرى.
ثانيًا:
أدوات التهيئة والتطويع.
وذلك من خلال العديد من
الإجراءات:
1. القوة الناعمة
والمساعدات: حيث استخدمت الولايات المتحدة أدوات اقتصادية ضخمة عبر تمويل مشروعات
تنموية أو تقديم الدعم الأمني والعسكري كوسيلة للتأثير والاحتواء، خصوصًا في دول
مثل مصر، الأردن، والعراق.
2. التكنولوجيا
والمعلومات: فقد مكنت أدوات الرقابة، والتجسس الإلكتروني، والدعم الاستخباري
المشترك بين أمريكا ودولة الكيان من التحكم في الكثير من الديناميات الداخلية
للدول، وكشف نوايا الفاعلين المحليين والإقليميين.
3. إعادة هيكلة التحالفات:
تم تحييد بعض القوى الصاعدة وإعادة ضبط أدوارها، وفق الرؤية الأمريكية-الصهيونية.
ثالثا:
قراءة تحليلية لما تحقق وما فشل.
1. النجاحات الجزئية:
- التفكيك الجيوسياسي:
العراق لم يعد دولة مركزية قوية، وسوريا لا تزال تعاني من الانقسام والتشرذم،
وليبيا واليمن متفتتان، ولبنان يشهد شللًا مستمرًا.
- التطبيع مع دولة الكيان:
اتفاقيات إبراهام شكّلت اختراقًا استراتيجيًا في البيئة السياسية العربية، حيث هناك
معاهدات تطبيع صهيونية مع عديد من الدول العربية رغم تعقيد الملف الفلسطيني.
- تحوّل الخطاب السياسي:
تراجعت مركزية القضية الفلسطينية لدى العديد من الأنظمة العربية، لحساب قضايا
التنمية والاستقرار والانفتاح على دولة الكيان وأمريكا والغرب.
2. الإخفاقات الكبرى:
- فشل الفوضى الخلاقة:
بدلًا من إنتاج نظم موالية ومستقرة، خلّفت التدخلات الأمريكية فراغات ملأتها جماعات
متطرفة، مما أضعف الأمن الإقليمي.
- صعود قوى إقليمية جديدة:
تركيا وإيران وروسيا والصين دخلت بقوة إلى المشهد، ما أضعف الهيمنة الأمريكية
المنفردة.
- الرد الشعبي المقاوم:
انتعاش حركات المقاومة المسلحة خصوصًا في غزة بعد معركة "طوفان الأقصى"، التي أعادت
الصراع الفلسطيني-الصهيوني إلى الواجهة كقضية مركزية، ما أعاق الزخم التطبيعي وأحرج
شركاء واشنطن في المنطقة، وأظهر أن الرؤية الصهيونية للأمن الدائم لم تتحقق.
- الردع الاستراتيجي
المتبادل: دولة الكيان لم تعد قادرة على حسم معاركها وحروبها رغم الدعم الأمريكي
الغربي والعديد من المناطق كالعراق واليمن ولبنان وقطاع غزة، رغم الحصار والتدمير،
لا تزال تشكل مصدر تهديد دائم لها.
- تحولات الرأي العام
العربي: رغم موجات التطبيع، لم يتحول المزاج الشعبي العربي إلى قبول دولة الكيان
كفاعل طبيعي، ما يجعل المسار هشًا وغير مضمون.
رابعا:
الرؤية الاستشرافية لمستقبل الشرق الأوسط.
1. تعدد الأقطاب
الإقليمية: نحن أمام نظام شرق أوسطي جديد، ليس أمريكيًا بالكامل ولا روسيًا أو
صينيًا، بل متعدّد المحاور (أنقرة، طهران، الرياض، القاهرة، تل أبيب).
2. انبعاث الهويات الوطنية
والمقاومة: ساهمت في تعزيز الوعي الشعبي بالقضايا السيادية، وظهور جيل جديد يرى في
المقاومة سبيلًا لفرض التوازن.
3. ضعف جدوى التطبيع دون
حل القضية الفلسطينية: فحرب الإبادة على غزة (2023) والمستمرة للآن أظهرت أن تجاهل
القضية الفلسطينية لن يؤدي إلى استقرار حقيقي في المنطقة.
4. صعود الاقتصاد الإقليمي
المستقل نسبيًا: بدأت دول عربية تنتهج سياسات اقتصادية وتنموية مستقلة عن الوصاية
الأمريكية، رغم التعاون معها.
نعم، لقد استطاعت الولايات
المتحدة ودولة الكيان من توفير بنية استراتيجية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر
الضغوط العسكرية والتطبيع، وفرض التحالفات، لكن الوصول إلى النموذج المنشود "سلام
شامل ومستقر مع دولة الكيان مرهون بثلاثة متغيرات:
1. قبول الدول العربية
لتوازن فلسطيني سياسي مقابل التطبيع.
2. نجاح صفقة نووية أو
تفاهمات طويلة الأمد مع إيران.
3. قدرة الجماعات الشعبية
والميدانية على مواجهة الهشاشة الاقتصادية والعدوان الأقصر.
ما نشهده اليوم ليس إلا
محطة على طريق طويل ومعقد لـ "الشرق الأوسط الجديد" الذي تريده الولايات المتحدة
ودولة الكيان وما زال حلمًا مشروطًا بمتغيرات محلية وإقليمية ودولية، إنه تطلّع
مُعقّد بين السيطرة الدبلوماسية والأمنية، والردود الشعبية والميدانية، والتوازنات
الدولية المتبدلة، ورغم أنهما نجحتا في فرض تغييرات هيكلية على المنطقة، الا أن
"الشرق الأوسط الجديد" الذي حلمتا به لم يتحقق بالشكل المرسوم، فالفوضى لم تكن
خلاقة، والتطبيع لم يكن كافيًا لضمان الأمن الصهيوني، والهيمنة الأمريكية بدأت
بالانحسار أمام بروز قوى إقليمية ودولية أخرى، والتحكم الكامل لا يزال بعيد المنال.
فالتاريخ في هذه المنطقة لا يسير بخط مستقيم، والمجتمعات العربية رغم كل الضغوط
تحتفظ بعناصر المقاومة والتجدد، نعم إننا أمام شرق أوسط جديد، لكن ليس بالضرورة ذلك
الذي خططت له واشنطن وتل أبيب بكل تفاصيله.