• - الموافق2025/10/10م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أمريكا اللاتينية.. لماذا هذه الجرأة نصرة لغزة؟

تنبع جرأة أميركا اللاتينية في مناصرة غزة من ذاكرةٍ مثقلةٍ بتدخّلاتٍ وانقلاباتٍ أمريكية، وتراثٍ يساريّ يستردّ السيادة ويتمرّد على الهيمنة الاقتصادية والثقافية؛ لذا ترى فلسطين مرآةً لرفضها التاريخي للاستعمار وتمركز القوة الغربية.


في ظل الخطابات المتصاعدة التي دعمت القضية الفلسطينية ونددت بما يحدث في غزة، برز موقف الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بشكل لافت. أمام الدورة الـ 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وصف بيترو ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، ودعا المجتمع الدولي للتدخل فورًا.

كما اقترح تشكيل جيش قوي من الدول التي لا تقبل الإبادة الجماعية لإنقاذ الفلسطينيين، وأمر بطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من بوغوتا وعلّق اتفاقات التجارة الحرة معها.

كذلك دعمت كولومبيا الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بخصوص ما اعتُبر جرائم في غزة، واتهم بيترو الولايات المتحدة بأنها شريكة في الإبادة. ردّت واشنطن بإلغاء تأشيرته ووصفت تصريحاته بأنها متهورة.

ولم يأتِ موقف البرازيل أقل جرأة؛ إذ عبّر الرئيس البرازيلي عن دعمه لتصريحات بيترو في مشهد تصويري سياسي بارز.

والسؤال هنا لماذا جاءت تلك الأصوات الأكثر جرأة في دعم القضية الفلسطينية من تلك البلاد البعيدة التي لا تربطها بفلسطين أو المنطقة العربية أية حدود، وحجم المشتركات الثقافية والدينية بل وحتى الاقتصادية ليست بالثقل التي يدفع لهكذا مواجهة مع إسرائيل وحليفاتها من القوى العظمى في العالم

جذور المناهضة الأمريكية في أمريكا الجنوبية

قد يبدو موقف هذه الدول بعيدًا عن فلسطين، لكنها نتاج تاريخ طويل من التدخلات الأمريكية المتكررة في القارة الجنوبية. منذ عقيدة مونرو عام 1823، التي أعلنت السيطرة الأمريكية على نصف الكرة الغربي، تحولت القارة إلى ما يُعرف بـ الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، حيث تُدار السياسة بقرارات استخباراتية أكثر من كونها نابعة من إرادة الشعوب.

أحداث مثل الحرب المكسيكية-الأمريكية (1846-1848) والتي أدت إلى فقدان المكسيك لنصف أراضيها، مما أثار شعوراً بالخيانة والتوسع الاستعماري، وألهم كتابات مثل "أمريكا في خطر" للكاتب التشيلي فرانسيسكو بيلباو عام 1856، الذي حذر من "مخالب النسر" الأمريكي. وحرب 1898 الإسبانية-الأمريكية، وانقلابات القرن العشرين المدعومة أمريكيًا في غواتيمالا، تشيلي، البرازيل، وأحداث خليج الخنازير في كوبا، كل تلك الأحداث رسخت صورة الولايات المتحدة كقوى مهيمنة تسحق السيادة الوطنية للدول من أجل مصالحها.

رد فعل هذه الهيمنة التاريخية ظهر في صعود موجة يسارية في أمريكا الجنوبية:

تشافيز في فنزويلا، موراليس في بوليفيا، لولا دا سيلفا في البرازيل

رفع هؤلاء شعارًا موحدًا: "الجنوب لا يُدار من الشمال بعد اليوم". رغم الضغوط الاقتصادية والسياسية، مثل حصار فنزويلا ومحاولات الانقلاب في بوليفيا، بقيت جذوة الوعي والتحرر حية، مؤكدة أن الاستقلال الوطني لا يُمنح بل يُنتزع.

الاقتصاد.. استعمار بوجه ناعم

تاريخيًا، شكلت السيطرة الاقتصادية الأمريكية أداة من أدوات الهيمنة:

سيطرة الشركات الأمريكية على الزراعة والتعدين في المكسيك قبل ثورة 1910

أزمات اقتصادية نتيجة الإصلاحات النيوليبرالية في الأرجنتين وفنزويلا خلال الثمانينيات والتسعينيات

الضغط العسكري والاقتصادي في عهد ترامب 2025، من تهديدات عسكرية إلى تعريفات جمركية على الفولاذ الأرجنتيني

تلك السياسات، المستوحاة من عقيدة مونرو، عززت إحساس أمريكا الجنوبية بالحاجة إلى تنويع الشراكات الاقتصادية، لتقليل الاعتماد على الهيمنة الأمريكية.

وفي زمن العولمة، لم تحتاج واشنطن إلى المارينز، بل إلى صندوق النقد الدولي وهيمنة الدولار.

بهذه الأدوات، أحكمت الولايات المتحدة سيطرتها على الاقتصادات اللاتينية، وتُقيَّد قراراتها بسياسات ديون لا تنتهي.

لكن الوعي الجديد بدأ يفرض نفسه؛ إذ اتجهت البرازيل والأرجنتين والمكسيك نحو الصين وروسيا والهند ضمن تكتلات جديدة كـ"بريكس"، في محاولةٍ لفك الارتباط عن السيطرة المالية الأمريكية.

إنها مقاومة ناعمة، لكنها لا تقل جرأة عن الثورات القديمة.

الهوية والثقافة.. رفض الذوبان

ثقافيًا، يُنظر للغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، كرمز للعنصرية والاستعلاء، فشعوب أمريكا اللاتينية لديها حساسية تجاه الهيمنة الغربية مما يغذي موقفًا مستقلًا لحكومتها دفاعا عن العدالة والقيم الإنسانية، كما ظهر في مواقفها من غزة وأوكرانيا.

في السنوات الأخيرة، كشفت مواقف أمريكا الجنوبية عن تحول عميق في وعيها الجيوسياسي:

رفض الانجرار إلى معسكر واحد في حرب أوكرانيا

إدانة المجازر في غزة ووقف العلاقات مع إسرائيل

تعزيز التعاون مع دول الجنوب عبر قمة بريكس وغيرها

هذه المواقف تعكس رغبة أمريكا الجنوبية في استعادة صوتها المستقل على المسرح العالمي، بعيدًا عن إرادة القوى الكبرى.

اللاتينيون لا يرون أنفسهم امتداداً للغرب، بل خليطاً من الروح الإفريقية والهوية الهندية والإرث الإيبيري. ومن هذا الخليط تولّدت حساسيةٌ حضارية تجاه كل ما هو غربي متعالٍ.

فالقارة التي صدّرت للعالم "غابرييل غارسيا ماركيز" و"بابلو نيرودا" لا يمكن أن تُختصر في أرقام التنمية أو مؤشرات الاستثمار. إنها روحٌ ترفض التمركز الغربي وتبحث عن معنى العدالة في عالمٍ أنهكه الجشع الرأسمالي.

أمريكا الجنوبية لا تعادي الغرب عبثًا؛ إنها تتحدث بلسان تاريخ لم يُصفّ حسابه بعد. من انقلابات الأمس إلى حصار اليوم، ومن ديون البنك الدولي إلى حروب الإعلام، ما زال الجرح مفتوحًا، لكنه صار وعيًا يقول: الكرامة والسيادة تُستعاد عبر الإرادة الحرة للشعوب، لا عبر دعم أو تهديد الأقوياء، ومن هنا جاء دعمها لفلسطين بوصفها رمزا لمقاومة الاستكبار الغربي والتمركز حول أفكاره.

أعلى