المقال يناقش تصاعد القلق الإسرائيلي من تراجع المظلة الأميركية مع تحولات إقليمية ودولية متسارعة، حيث اعترفت دول غربية بفلسطين، واتجهت دول الخليج لتحالفات أمنية جديدة بعيداً عن واشنطن، مما يضع نتنياهو وترامب أمام تحديات مصيرية قد تحدد مستقبل النفوذ الأميركي
تشهد المنطقة اليوم واحدة
من أكثر مراحلها السياسية تعقيداً منذ عقود، حيث تتقاطع أزمات الداخل مع حسابات
الخارج لتنتج مشهداً إقليمياً ودولياً مرتبكاً. إسرائيل من جهة، وأوروبا من جهة
أخرى، تبدوان وكأنهما في سباق نحو القاع، بينما تستعد منطقة الشرق الاوسط لتصوغ
خياراتها بعيداً عن هذا المسار، في وقت يتراجع فيه الدور الأميركي على نحو واضح.
وفي قلب هذه اللحظة الحرجة، يقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء
الصهيوني بنيامين نتنياهو أمام تحديات تقود جميعها إلى مواجهة حتمية غير قابلة
للتأجيل.
من نيويورك، حيث واصل
نتنياهو تقليده السنوي بإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى واشنطن
حيث يلتقي الرئيس الأميركي للمرة الرابعة هذا العام، تتبلور رهانات متباينة،
فالاجتماع المقرر الاثنين مع ترامب يمثل محاولة لتأمين ما تبقى من مظلة الدعم
الأميركي قبل الدخول في استحقاق انتخابي داخلي صعب في أكتوبر 2026. أما بالنسبة
لترامب، فإن اللقاء قد يشكل الفرصة الأخيرة لإعادة بناء نفوذ الولايات المتحدة، بعد
أن بدا في الأسابيع الماضية أن واشنطن فقدت قدرتها على التأثير في مسارات الأحداث
لا سيما بعد قصف الدوحة وتعريتها سياسياً وعسكرياً أمام التزاماتها بأمن منطقة
الخليج.
الجامع بين الموقفين
الصهيوني والأوروبي هو الارتهان للسياسة الداخلية، فنتنياهو يجد نفسه مقيداً بشروط
ائتلاف يميني متشدد يقوده وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش، ما يجعله عاجزاً عن تقديم أي
تنازل قد يُفهم على أنه تراجع. في المقابل، يواجه القادة الأوروبيون ضغوطاً داخلية
متصاعدة، حيث يرى الرأي العام أن الحرب في غزة تحولت إلى كارثة إنسانية مفتوحة، وهو
ما دفع دولاً كفرنسا والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا إلى الاعتراف بالدولة
الفلسطينية. هذه الخطوة لم تكن تعبيراً عن مكافأة لحماس، كما يروّج نتنياهو، وإنما
نتيجة مباشرة لغضب شعبي واسع النطاق بالإضافة إلى محاولة إنقاذ للمشروع الصهيوني
وسط تصاعد كبير لمعاداته والتشكيك في مشروعيته في العالم بأسره، وهي تشبه إلى حد
كبير مسار أوسلو الذي ابتكره الغرب للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام
1987م.
لكن المفارقة أن هذا
الاعتراف الأوروبي، على الرغم من صياغته بشروط واضحة تستبعد حماس وتؤكد على حل
الدولتين، قد وفّر للحركة فرصة للظهور بمظهر المستفيد السياسي، خصوصاً بعدما تعاملت
الدولة العبرية معه بوصفه "مكافأة لحماس". وبينما تبحث السلطة الفلسطينية عن دور
يحفظ لها مكانتها، وجدت حماس نفسها في قلب النقاش الدولي دون أن تضطر لتغيير
مواقفها أو سياساتها.
في هذا السياق، كان من
المتوقع أن تتدخل الولايات المتحدة لاحتواء التناقضات وصياغة مسار بديل، غير أن
الواقع كشف محدودية تأثيرها. فمحاولات ترامب لثني الحلفاء عن الاعتراف بفلسطين باءت
بالفشل؛ كندا أبرز حلفاء واشنطن لم تُعر تهديداته التجارية أي اهتمام، والمملكة
المتحدة سارعت إلى إعلان موقفها بمجرد مغادرة طائرته أجواء لندن. الأسوأ أن شركاء
واشنطن التقليديين في الخليج
–
السعودية والإمارات وقطر
– اجتمعوا
ليعلنوا أن الدولة العبرية تهديداً إقليمياً بعد أن كانت المنطقة تقاد من قبل ترامب
إلى صفقات تطبيع متتالية، ثم أبرمت الرياض اتفاقاً دفاعياً مع باكستان بموجبه أصبحت
تحت المظلة النووية الباكستانية، في إشارة صريحة إلى أن الضمانات الأميركية لم تعد
كافية لتأمين الاستقرار في المنطقة.
هذه التحولات تطرح أسئلة
عميقة حول مستقبل النفوذ الأميركي. فإذا كانت واشنطن عاجزة عن التأثير في حلفائها
الغربيين أو الحفاظ على ثقة شركائها العرب، فإن قدرتها على قيادة المبادرات الكبرى
مثل توسيع اتفاقات أبراهام أو إطلاق ممر
IMEC
ستظل موضع شك. الأمر يتجاوز مجرد تراجع دبلوماسي إلى خلل بنيوي في موقع الولايات
المتحدة كفاعل رئيسي في المنطقة.
بالنسبة لترامب، فإن
اجتماع البيت الأبيض المرتقب يحمل رهانات شخصية وسياسية، وسيظهر الرجل أمام خيارين
أولهما أن يضع بصمته في الشرق الأوسط ويضع خطوطًا حمراء واضحة تجاه فرض السيادة
الصهيونية في الضفة ووقف الحرب في غزة وبذلك تكون واشنطن قادرة على استعادة التأثير
وبعض الثقة تجاه أوروبا والدولة العربية الحليفة. أما نتنياهو، فإنه يدرك أن نافذته
الزمنية تضيق. أمامه عام واحد على الأكثر قبل انتخابات لا تبدو نتائجها في صالحه،
وإذا لم يستثمر ما تبقى من دعم أميركي، فقد يجد نفسه
–
أو من يخلفه
– أمام
إدارة أميركية جديدة تميل إلى تبني المواقف الأوروبية الأكثر حزماً تجاه الدولة
العبرية.
إن المشهد الراهن يضع
الجميع أمام مفترق طرق. فإذا نجح لقاء الاثنين في صياغة تفاهمات جديدة، فقد يكون
بداية مسار يعيد التوازن إلى الدور الأميركي ويمنح الدولة العبرية فرصة لإعادة
تموضعها مع حلفاء واشنطن وهذا الأمر ما خلصت إليه خطة ترامب المروج لها في وسائل
الإعلام والتي حصلت على تزكيات من بعض الدول العربية والإسلامية ورفضتها حركة حماس،
والتي هدفها السيطرة على قطاع غزة من قبل أطراف دولية بقيادة رئيس الوزراء
البريطاني السابق توني بلير مهندس تدمير العراق، أما إذا تكرر سيناريو اللقاءات
السابقة التي لم تثمر سوى عن المزيد من التباعد، فإن الولايات المتحدة والدولة
العبرية معاً ستواجهان واقعاً أشد صعوبة، عنوانه الأساسي تراجع النفوذ واتساع دائرة
العزلة.