• - الموافق2025/10/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من فيتنام إلى غزة.. التاريخ الأسود لاختبار الأسلحة وصناعة الموت

في إطار الحرب على غزة؛ لا تعمل إسرائيل وحدها، بل هناك منظومة متكاملة من شركات دفاعية (إسرائيلية وأجنبية)، مقاولين خاصين، أسواق تصدير، ودعم سياسي أمريكي يجعل من اختبار السلاح عملًا مربحًا ومن التجربة الميدانية مادة تسويقية


لم تخلُ الحروب الحديثة من بُعدٍ علمي-تقني يوظَّف لصنع الأسلحة وتطويرها، لكن ثمة فرق فاصِل بين ساحات تُدار فيها المواجهات وبين مختبرات تُختَبَر فيها أدوات القتل على أجساد البشر. حين نتذكر فيتنام، تتجلّى أمامنا صورة اختبارٍ مُعمّم لأدوات حربٍ جارفة؛ من نابالم يلتهم الجسد والبُنى التحتية إلى عوامل كيميائية تركت ندوبًا بيئية وصحية امتدت لأجيال.

واليوم في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، لا يمكن فصل صور الدمار عن تساؤلات أخلاقية وسياسية مركزية: من يربح فعلاً من تحويل شعبٍ محاصر إلى مختبر ميداني تُقاس فيه فاعلية الأسلحة وتُحوَّل معاناة المدنيين إلى بيانات تسويقية تُعرض لاحقًا على أسواق السلاح؟، وكيف تتحوّل لقطات الاستهداف ومعدلات الإصابة وصور الحصار إلى مؤشرات أداء تُسوَّق كضمانات موثوقية لأسلحة القتل والدمار؟

إرث فيتنام المظلم

فيتنام لم تكن مجرد ساحة حرب عادية؛ بل كانت مختبرًا ميدانيًا مكشوفًا للأسلحة الأمريكية، فبين عامي 1962 و1971 شنت الولايات المتحدة عملية "رانش هاند" التي رشّت خلالها ما يقارب 20 مليون جالون من مبيدات الأعشاب على أراضي فيتنام ولاوس وكمبوديا، من بينها كميات كبيرة مما عُرِفَ لاحقاً باسم "Agent Orange" المحتوية على مُركّب الديوكسين السام. إلى جانب ذلك، استُخدِمَ النابالم والذخائر الحارقة الأخرى على نطاق واسع، مصحوبة بقصف جوي ومدفعي كثيف. النتيجة لم تكن حسابات تكتيكية فحسب، بل تجربة عنيفة حول مدى تأثير أسلحة مدمرة على بيئة بشرية وحضرية، تجربة تسببت في تدمير مزارع، تشريد قُرى، بل ومحو قرى بأكملها من سطح الخرائط.

الثمن الإنساني والبيولوجي كان ولا يزال كارثيًا، فالخسائر البشرية في صفوف المدنيين والعسكريين الفيتناميين قُدّرت بملايين؛ التقديرات العلمية والتاريخية تشير إلى أعداد ضحايا مدنية وعسكرية تتراوح في نطاق الملايين، وفي عام ١٩٩٥ قدرت فيتنام أن عدد المدنيين الذين قتلوا في الحرب كان حوالي ٢ مليون، وأن عدد المقاتلين بلغ حوالي ١.١ مليون، فيما خلّف الرش المتواصل للمواد الكيميائية آثاراً وراثية ومشكلات صحية متفشية (تشوهات خلقية، سرطانات مزمنة، آثار على الأجيال التالية) نتيجة التعرض للديوكسين الذي يبقى في التربة والسلاسل الغذائية لعقود. البيئات التي تعرضت للرش لم تتعافَ بسهولة؛ الأشجار والمزارع ظلت ملوثة بآثار التسمم بشكل طويل الأمد.

الصورة الشهيرة للفتاة المحترقة بالنابالم، والفيديوهات المصوّرة من حقول مشتعلة وقرى مدمرة، صنعت رد فعل عالمي استثنائي آنذاك؛ لم تنجح الصور في إثارة الغضب فحسب، بل أشعلت نقاشًا حول حدود القبول في الحرب. هذا الضغط الشعبي والمعنوي لم يلغِ كل الانتهاكات، لكنه أفضى إلى محاولات لاحقة لوضع قيود دولية على استخدام أسلحة حارقة وبعض المبيدات في أطر القانون الدولي.

لكن الدلالة الأهم ليست مجرد الإدانة، بل استخلاص عبرة؛ فيتنام برهنت أن القوة التي تُعامل الشعوب كحقل تجارب تفعل ذلك بعقلية اقتصادية تتلخص في قياس فاعلية السلاح، تسجيل النتائج، وبيع نجاحات تلك الأسلحة كسجلات أداء.

هذا النموذج للتجريب الميداني ما زال حيّاً ولكن في أطر جديدة؛ مثل: تقنيات استهداف متقدمة، طائرات دون طيار، وأنظمة معلوماتية تجمع بيانات لحظية، وبالتالي فإن قراءة إرث فيتنام ليس إحياءً لذكريات فحسب، بل تنويه بأن التاريخ يعيد نفسه عندما تسمح المصالح الصناعية والسياسية لأنفسها أن تختبر أدوات القتل على أجساد بشرية لا حول لها ولا قوة.

واقع غزة اليوم

غزة اليوم ليست مجرد ساحة قتال؛ بل مدينة محاصرة تحولت إلى أنقاض مأهولة، فمع استمرار الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة أُجبِرَ مئات الآلاف على النزوح مرّات متعددة، وتُقدَّر أعداد النازحين شهريًا بعشرات الآلاف داخل مقاطعات مدنية أصغر، بينما تُبلغ أعداد السكّان الذين ما زالوا محاصرين ومجبرين على البقاء في مناطق محاصرة أرقاما تقارب مئات الآلاف. هذا المستوى من التهجير المتكرر يحوّل السكان إلى مجموعة سهلة التعرض للاختبارات الميدانية: حركة الناس المحصورة، انهيار شبكة الحماية المدنية، وتلاشي المسارات الآمنة يجعل من أي تقنيات استهداف قيد الاختبار أكثر دموية.

 

في غزة اليوم يتكرر نفس المنطق لكن بتقنية أكثر شرًا وخفاءً، حيث تُجرَّب أنظمة الطائرات المسيرة، وأنظمة الاستهداف المعتمدة على البيانات والذكاء الاصطناعي، أدوات قادرة على التعلم من كل هجوم

القطاع يعاني انهيارًا تامًا في البنى التحتية الحيوية، تقارير منظّمات الأمم المتحدة ووكالات صحية دولية تُظهر أن نسبة كبيرة من المنشآت الصحية تضرّرت أو تعطّلت، إذ أفادت منظمة الصحة العالمية في تحليلها الأخير بأن الهجمات وانقطاع الإمدادات أضرت أو دمرت نحو 94% من قدرات المشافي والبنى الصحية في مناطق القطاع، انقطاع المياه الصالحة والشحّ في الوقود والدواء يضاعف من معاناة السكان ويُصعّب تقديم الرعاية الضرورية؛ وهذا بدوره يوفر حقل تجربة لحالات إصابات مختلفة تُسجَّل وتُصنَّف لتقييم فاعلية أسلحة ومقاربات طبية حربية.

نسبة الضحايا المدنيين والوتيرة المروعة للقتل تبرز البنية الحقيقية للصراع: بيانات تحليلية محدثة تشير إلى أن المدنيين يمثلون نسبة ساحقة من الشهداء والمصابين، ففي تقرير حديث قُدِّر أن 15 من كل 16 شخصًا يموتون في غزة منذ بدء الحرب هم مدنيون، وهو ما يؤكد أن العمليات العسكرية تُنتج أعدادًا هائلة من الضحايا غير المقاتلين، وهو ما يوفّر بدوره بيانات مؤسفة عن أثر ضروب معينة من الضربات (القوة التفجيرية، أنماط الإصابة، أثرها على البنى السكنية)، وهو ما يمكن أن تُستخدم لاحقاً كدلائل تشغيلية لصناعة السلاح. فضلاً عن ذلك، وقد شهدت الأشهر الأخيرة قفزات في عمليات تدمير المساكن، وإغلاق طرق الإجلاء، واستهداف مناطق تُعتبر ملاذًا إنسانيًا، وهي عوامل تُضاعف من قيمة سوق النتائج بالنسبة لمختبري الأسلحة.

جانب آخر يعزز الطابع التجريبي للميدان هو إدماج تقنيات حديثة للتجسس والاستهداف والقتل: تحقيقات وتقارير صحفية ومنظمات حقوقية توثّق استخدام طائرات مسيّرة حديثة لمهام قصف ومراقبة، وانتشار أنظمة تصوير واستشعار متقدمة، واستعمال أدوات رقمية والذكاء الاصطناعي في دعم اتخاذ القرار الاستهدافي. ناهيك عن إعادة تجهيز طائرات تجارية وتحويلها لاستخدام قتالي بعد دمجها مع أدوات رقمية تُستخدم في تحديد الأهداف، وهو ما يشير إلى انتقال التجربة من مجرد استخدام سلاح تقليدي إلى اختبار منظومات تكاملية (طائرة، حسّاسات، خوارزميات) في بيئة حقيقية، سكانها مدنيون محاصرون. هذه الوقائع لا تُظهِر فقط رغبة في الإيرادات والأرباح، بل تُبيّن أيضاً كيف أن السيطرة السياسية والدعم العسكري الخارجي يوفّران الغطاء العملي لتلك التجارب القذرة.

ما بين غزة وفيتنام

فيتنام كانت برهانًا صارخًا على منطق القوة الذي يتحوّل إلى آلة تجريب، وكانت النتائج: دمار بيئي هائل، ملايين الضحايا والمصابين، وظهور آثار وراثية وطبية امتدت لأجيال. ما يؤلم في سردية فيتنام أنّ قرار اختبار مثل هذه الأدوات لم يكن عفويًّا أو عسكريًا محضًا؛ بل كان قرار صنعته منظومة صناعية عسكرية ترى في البيئات البشرية السهلة ميدانًا لقياس الفعالية وقراءة نتائج تتحوّل لاحقا إلى أرباح وسياسات، هذه الحقائق التاريخية تُثبت أن الولايات المتحدة لوّنت الحروب بعين ربحية حين اعتبرت البشر مجرد متغير تجريبي في معادلتها الاستراتيجية.

في غزة اليوم يتكرر نفس المنطق لكن بتقنية أكثر شرًا وخفاءً، حيث تُجرَّب أنظمة الطائرات المسيرة، وأنظمة الاستهداف المعتمدة على البيانات والذكاء الاصطناعي، أدوات قادرة على التعلم من كل هجوم، تصحيح الأخطاء، وتحسين الدقة في ظروف حضرية مكتظة بالمدنيين. هنا لا نواجه مجرد تكرار تاريخي لما حدث في فيتنام، بل تصعيدًا منهجيًا، فإسرائيل، مدعومة سياسياً وعسكرياً من الولايات المتحدة، لا تختبر أسلحة تقليدية فحسب، بل تختبر منظومات قتل وخوارزميات متكاملة تُقدّم نتائجها في صورة بيانات تشغيلية قابلة للتسويق.

آليات الربح.. كيف يصنع القتل سوقًا؟

في إطار الحرب على غزة؛ لا تعمل إسرائيل وحدها، بل هناك منظومة متكاملة من شركات دفاعية (إسرائيلية وأجنبية)، مقاولين خاصين، أسواق تصدير، ودعم سياسي أمريكي يجعل من اختبار السلاح عملًا مربحًا ومن التجربة الميدانية مادة تسويقية، الأدلة الأخيرة لا تترك مجالاً للشك: الشركة الإسرائيلية العملاقة "Elbit" رفعت إيرادات قياسية (نحو 6.8 مليار دولار في 2024) وزيادة في الطلب بين 2024 و2025، وفي المقابل أفلحت ضغوط شعبية في بريطانيا في دفعها إلى إغلاق منشأة بعد اعتصامات واحتجاجات مستمرة، وهو إغلاق يؤشر إلى هشاشة سمعة هؤلاء الفاعلين، لكن لا يزعزع أرباحهم العظمى. لكن السؤال الهام الآن: كيف يصنع القتل سوقًا؟ .. يحدث هذا من خلال الجوانب التالية:

* الاختبار الميداني كإعلان: أي قصف مُفصَّل بكاميرات الطائرات المسيرة يتحول سريعًا إلى مقطع تسويقي، فيديو يُظهر "دقة الضربة" أو "قمع الهدف" يُروَّج للمشتريين المحتملين كدليل فاعلية. هذه المادة المرئية والبيانات التشغيلية تُحوّل لاحقًا إلى عقود وصيانات ومعدّات تحديث.

* تحويل البيانات إلى سلعة: سجلات الاستهداف، معدلات فاعلية الذخائر، وتحليلات الأداء تُخزّن وتُباع ضمن عروض عقود؛ بيانات الميدان تصبح جزءًا من حزمة المنتج التي تغلّبها شركات مثل Elbit وRafael وIAI. هذا يجعل التجربة الميدانية قيمة اقتصادية قابلة للاستخراج، وبالفعل فقد أعلنت شركات مثل Elbit وRafael عن أرقام مبيعات قياسية خلال 20242025، وبلغت صادرات الأسلحة الإسرائيلية مستوى قياسيًا تقارب 15 مليار دولار في 2024، ما يعكس زيادة الطلب الخارجي على منتجات مختبرة ميدانيًا.

* شبكات التصدير والتمويل: آليات بيع الأسلحة المباشرة الأمريكية، إلى جانب عقود حكومية ثنائية، تضمن قنوات تصدير مستمرة وتسهيلات تمويلية تجعل سوق السلاح رهانًا آمنًا لموردي السلاح. هذا الغطاء السياسي والمالي يسهّل استمرار التجارب حتى مع احتجاجات مدنية.

* شركات الظل والواجهات: مقاولو الأمن الخاص، شركات تكنولوجية مدنية ـ مثل مايكروسوفت ـ تُحوَّل أحيانًا لواجهات تصنيعية، وشركات تسجيل بيانات تقدم خدمات تحليلات للاستخدام العسكري، كل ذلك يمكّن من إخفاء حلول وتجارب خلف ستار قانوني ومالي معقد يمنع المساءلة السريعة.

* إعادة تأطير الجرم: الإعلام الرسمي والدبلوماسي يصف الحوادث باسم "دقة استهداف" أو "أهداف مشروعة" بينما تُغلق ملفات المدنيين والدماء بوصفها خسائر جانبية. هذا الإطار يتيح لشركات السلاح بيع نتائجها على أنها تحسين تكتيكي بدل أن تكون أدلة جرائم، ويضع ضبابًا قانونيًا على عملية المساءلة.

النقد لا يختزل نفسه في لعن الماضي أو التشبّث بذكر جزئيات تاريخية: إنه توجيه اللوم إلى منظومة مستمرة. الولايات المتحدة اختبرت فيتنام بانتهاك صارخ لمعايير البشر والبيئة، والإخلاص لمصلحة الصناعات الدفاعية جعل من التجربة استراتيجية مقصودة. اليوم، إسرائيل ـ بدعم أمريكي واضح في كثير من المسارات ـ تمارس نسخة متطورة من ذات المنطق: تحويل غزة إلى مختبر ميداني لنظم قتل رقمية تُعزّز سوق السلاح العالمي والربح عبر دم البشر.

أعلى