• - الموافق2025/06/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العفة  في التراث الأدبي العربي

وأكثَر حكماء العرب في الجاهلية والإسلام مِن ذِكْر العفة ومدحها؛ قال أبو عمرو بن العلاء: كان أهل الجاهلية لا يسوّدون إلا مَن كانت فيه ست خصال، وتمامها في الإسلام سابعة: السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والبيان، والحسب، وفي الإسلام زيادة العفاف


مادّة (ع ف ف) في اللغة العربية تدلّ على الكفّ عن القبيح، فيقال: عفَّ عن الحرام يعفّ عفًّا وعفةً وعفافًا وعفافة، أي كفَّ. وأصل العفة: الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة (أي: البقية من الشيء)، أو مجرى العفعف، وهو ثمر الأراك. والاستعفاف: طلب العفة. والعفّة: الكفُّ عما لا يَحلّ ويجمل. والعفة أيضًا: النزاهة.

والعفة في اللغة العربية ليس لها مثيل في لغات العالم. فالعفافة: هي بقية اللبن في الشكوة -وعاء من الجلد-، وقد تُطلَق على ما يبقى في الضرع بعد الحلب. وهي شيء قليل. ومَن رضي بالقليل -هذا اللبن- فهو على خُلق ما. وقد أجمع العرب على تسميته بالعفة، ومنها تولَّد معنى العفاف، وهو الرضا بما تيسَّر حفظًا للكرامة وصونًا للنفس. والعفيف مَن كان ذلك نعته، ومِن ثَم جاء الاسم عفّان -أبو عثمان الخليفة الراشد-، على وزن فعلان من عفّ، كعطشان من عطش.

والعفة: ضبط النّفس عن الشّهوات، وقَسْرها على الاكتفاء بما يُقِيم أود الجسد، ويحفظ صحته فقط، واجتناب السرف في جميع الملذات وقصد الاعتدال، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشهوات على الوجه المستحبّ المتفق على ارتضائه، وفي أوقات الحاجة التي لا غِنَى عنها، وعلى القَدْر الذي لا يُحتاج إلى أكثر منه، ولا يَحرس النفس والقوة أقلّ منه، وهذه الحال هي غاية العفَّة.

بداية القول

قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٦]، وقوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: ٣٣]، وقوله -جل وعلا-: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٧٣]. وقوله سبحانه: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: ٢٣].

والعفة مذكورة في السنة النبوية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْر»[1].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «مَن يتصبّر يُصبِّره اللهُ، ومَن يستغنِ يُغنه اللهُ، ومَن يستعفف يُعفّه اللهُ، وما أَجد لَكم رِزقا أَوسع من الصبر»[2].

وقال صلى الله عليه وسلم : «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»[3].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حِفْظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة»[4].

وقال صلى الله عليه وسلم : «برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا تعفّ نساؤكم»[5].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمُكاتب الذي يريد الأداء، والنّاكح الّذي يريد العفاف»[6].

وقال صلى الله عليه وسلم : «عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفّف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه»[7].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «اليَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ»[8].

وقال صلى الله عليه وسلم  لصاحب حق: «خُذ حقّك في عفاف وافٍ أو غير وافٍ»[9].

وأكثَر حكماء العرب في الجاهلية والإسلام مِن ذِكْر العفة ومدحها؛ قال أبو عمرو بن العلاء: كان أهل الجاهلية لا يسوّدون إلا مَن كانت فيه ست خصال، وتمامها في الإسلام سابعة: السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والبيان، والحسب، وفي الإسلام زيادة العفاف.

وقال لقمان الحكيم: حقيقة الورع العفاف.

ولما فتح المسلمون القادسية أخذوا الغنائم ودفعوها إلى عمر. فقال: إن قومًا أدوا هذا لأُمناء، فقالوا له: عففتَ فعفُّوا ولو رتعت -يا أمير المؤمنين- لرتعت أمتك.

وقال عبدالله بن عمر: نحن معشر قريش نعدّ الحلم والجود السّؤدد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة.

وقال محمد بن الحنفية: الكمال في ثلاثة: العفّة في الدّين، والصّبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة.

وقال الحسن بن علي: يا ابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عبدًا، وارض بما قسم الله سبحانه تكن غنيًّا.

وقال عمر بن عبد العزيز: خمس إذا أخطأ القاضي منهنّ خطّة كانت فيه وصمة: أن يكون فَهِمًا حليمًا عفيفًا صليبًا، عالمًا سَؤُولاً عن العلم.

وقال عبد الله بن زيد الجرمي: أيّ رجل أعظم أجرًا من رجل يُنفق على عيال صغار يُعِفُّهم أو ينفعهم الله به، ويغنيهم؟!

وقال سفيان الثّوريّ: إن أول ما نبدأ به في يومنا عفّة أبصارنا.

وقالت العرب في وصف قوم: أعفة الفقر. أي: إنهم إذا افتقروا لم يُفشوا المسألة القبيحة.

وقالت: الشكر زينة الغنى، والعفاف زينة الفقر.

وقالت: حق الله واجب في الغنى والفقر، ففي الغنى العطف والشكر، وفي الفقر العفاف والصبر.

وقالت: العفة دليل وفرة العقل، ونزاهة النّفس.

وقالت: زينة الفقر العفة، وزينة الغنى الحمد.

وقالت: عزيز النفس عفيف عن الشهوات.

أما الشعراء فقد أكثروا من ذِكْر العفة، ومدحها، والإشادة بأهلها؛ ومن ذلك:

قال عنترة بن شداد:

هلا سألت الخيل يا ابنة

مالك إن كنتِ لم تعلمي

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم

وقال:

وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي

حتى يُواري جارتي مـأواهـا

إني امرؤ سمح الخليقة ماجد

لا أتبع النفس اللّجوج هـواهـا

وقال طرفة بن العبد:

وإني لعفّ عن فكاهة جارتي

وإني لمشنوء إليَّ اغتيابها

إذا غاب عنها بَعْلها لم أكن لها

زؤورا ولم تأنس إليَّ كلابها

ولم أكُ طلّابًا أحاديث سرّها

ولا عالمًا من أيّ حوك ثيابها

وقال السموأل:

إذا المرء لم يُدنّس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل

تُعيّرنا أنّا قليل عديدنا

فقلت لها: إن الكرام قليل

ويقول جميل:

وكان التفرق عند الصباح

عن مثل رائحة العنبر

خليلان لم يقربا ريبة

ولم يستخفّا إلى منكر

ويقول العباس بن الأحنف:

أتأذنون لصبّ في زيارتكم

فعندكم شهواتُ السمع والبصر

لا يُضمر السوءَ إن طال الجلوس به

عفّ الضمير ولكن فاسق النظر

قال أبو العلاء المعري:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل

عفاف وإقدام وحزم ونائل

وقال البحتري:

صنتُ نفسي عما يُدنّس نفسي

وترفّعت عن جِدَا كل جِبْس

وقال أبو فراس الحمداني:

عفافك عيّ، إنما عفة الفتي

إذا عفّ عن لذاته وهو قادر

وقال:

أَنا الَّذي إِن صَبَا أو شَفَّهُ غَزَلٌ 

فلِلعفافِ وللتقوى مَآزِرُهُ

وأشرفُ الناسِ أهلُ الحبِّ منزِلة

وأشرَفُ الحبِّ ما عَفَّت سرائِرُهُ

وقال الشاعر:

قالت: لنا الوقتُ، فاترُكْ ما تَهُمُّ به

والعشقُ ثوبَ عفافٍ حولَنا نَسَجَا

وهَدْهَدَتني بكَفٍّ لو بها لَمَسَتْ قبرًا

لقام الذي قد مات واندَرَجَا

وجنّةُ الأرضِ لا أَعصي فأُغضِبُها

ولو رأيتُ بها التفّاحَ قد نَضَجا

حتّى وهَبتُ لها ما كان يُضمِرُهُ

وَجْدي بها وضميري باتَ مُبْتَهِجا

وقال الشاعر:

لقد علم اللهُ أنّي امرُؤٌ أجرِّرُ

ذَيلَ العفافِ القشيب

فكم غمّض الدهرُ أجفانَه

وفازت قِدَاحِي بوَصْلِ الحَبيب

وقيل: رقيبُكَ في غفلةٍ

فقلت: أخاف الإلهَ الرّقيب

وقال المتنبي:

والظلم من شِيَم النفوس فإن

تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلم

وقال الشاعر:

ليس الشجاع الذي يحمي فريسته

عند القتال ونار الحرب تشتعل

لكن من ردّ طرفًا أو ثنى وطرًا

عن الحرام فذاك الفارس البطل

وقال بشارة الخوري:

مهد الغرام ومسرح الغزلان

حيث الهوى ضرب من الإيمان

يتعانق الروحان فيه صبابة

ويعفّ أن يتعانق الجسدان

وختامًا:

يقول الشاعر عبد الرحمن العشماوي:

يموت الخؤون على حقده

ويرقى بعفّته المسلم

وقيل في عفة نساء العرب:

هنّ اللواتي في البيوت جواهر

وإذا خرجن إلى الطرق خيام

بيض نواعم ما هممن بريبة

كظباء مكة صيدهن حرام

 


 


[1]  أخرجه البخاري (١٤٦٩).

[2]  أخرجه أحمد (١١٠٩١) واللفظ له، وابن حبان (٣٣٩٩) وصححه الأرناؤوط.

[3]  أخرجه مسلم (٢٧٢١).

[4]  أخرجه أحمد (٦٦٥٢) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (١٧١٨).

[5]  أخرجه الحاكم، المستدرك على الصحيحين (٧٤٦٥) وفي سنده مقال.

[6]  أخرجه الترمذي (١٦٥٥)، والنسائي (٣٢١٨)، وابن ماجه (٢٥١٨)، وصححه الألباني.

[7]  أخرجه الترمذي (١٦٤٢)، وأحمد (٩٤٩٢) وفي سنده مقال.

[8]  أخرجه البخاري (١٤٢٧).

[9]  أخرجه ابن ماجه (٢٤٢٢)، والبزار (٩٤٢١) وحسنه الألباني.

أعلى