التأديب في الإسلام وسيلة تربوية لإصلاح السلوك لا للإيذاء، يقوم على التدرّج من النصح إلى الهجر ثم الضرب الخفيف بضوابط دقيقة، مراعيًا سنّ الطفل ونفسيته، بهدف الاستقامة، وبناء شخصية متوازنة، وقدوة صالحة.
التأديب في اللغة مأخوذ من مادة
«أدب»؛
يقال: أدَّب فلانًا: راضَه على محاسن الأخلاق، ولقَّنه فنون الأدب، وجازاه على
إساءته. وتأدب بأدب القرآن، وأدب الرسول: احتذاه. والأدب: رياضة النفس بالتعليم
والتهذيب على ما ينبغي»[1].
وتأديب الأولاد، لا يعني إذلالهم وإهانتهم، وإنما لأجل نجاحهم واستقامتهم، والوصول
بهم إلى أعلى درجات الرقي الإنساني قولًا وسلوكًا وفق تعاليم الإسلام وشرائعه.
وتأديب الولد من حق الوالد، والتأديب يبدأ فيه بالأسهل والأخف، ولا يكن مقصده من
التأديب الأذى، وإيقاع الضرر بالولد، وإنما بِنِيَّة الاستقامة، وتقويم المعوج من
السلوك بالوسائل السلمية والتربوية دون اللجوء للضرب لأول مرة.
«والتأديب
على أنواع؛ منها: الوعيد بالضرب، ومنها حبس المنافع والعطية والبر؛ فإن النفوس
تتفاوت؛ فنفس تخضع بالغلظة والشدة، ولو استعملت معها الرفق والبر لأفسدها، ونفس
بالعكس، وقد جعل الله الحدود والتعزير لتأديب العباد على قدر ما يأتون المنكر، فأدب
الأحرار للسلطان، وأدب المماليك والأولاد إلى السادات والآباء، وهو مأجور على
التأديب، ومسؤول عنه»[2].
والتأديب يتفاوت من نفسٍ لنفس، فهناك نفس يمنعها بمجرد الكلمة، وهناك نفس يمنعها
ويدفعها عن الشر الضرب والتعنيف؛ لأجل هذا كانت العقوبات التعزيرية، وعقوبات
القصاص، ولا ينفع التعزير بدلًا من القصاص، ولا ينفع القصاص بدلًا من التعزير.
والنفس الإنسانية أنواع: النفس اللوامة، والنفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء.
والسوء يتفاوت بين الناس، فهناك سوء يُوجِب التوبيخ والزجر، وهناك سُوء يُوجِب
التعزير والحبس، وهناك سوء يُوجِب القصاص.
وتأتي الحكمة من التأديب في النقاط التالية:
1-تأديب الأولاد فيه تحصيل صلاحهم وتهذيبهم، وردعهم عن الوقوع في الخطأ، فمن حُرِمَ
التأديب؛ فقد حُرِمَ الخير.
2-التأديب وإن كان مؤلمًا في ظاهره إلا أنه في حقيقته وسيلة عظيمة لعلاج بعض
الأدواء المقيتة، والأمراض المشينة التي تُعْدِي بعض النفوس البشرية، والتي لا يمكن
أن تصلح إلا بدواء الضرب غير المبرح.
3-التأديب ينسجم مع طبيعة النفس البشرية، والتي تحتاج إلى الترغيب تارة، والترهيب
تارة أخرى؛
«وأحوال
الناس مختلفة، فمنهم مَن ينزجر بالنصيحة، ومنهم مَن يحتاج للضرب، ومنهم مَن يحتاج
إلى الحبس»[3]،
فالاختلاف في أحوال الناس يقضي بالتفاوت في التأديب والعقوبة.
4-التأديب للأولاد يُحقِّق العدل بينهم؛ فإن الابن المسيء عندما يتعرَّض للزجر أمام
أقرانه يرتدع ويرجع المتأهب للخطأ، وبالتالي تستقيم حياتهم لما فيه نفعهم في الدنيا
والآخرة.
5-التأديب عاقبته حميدة، فهو حقّ للولد على الوالد، حتى إذا كبر الولد عرف جميل
والديه، وما له، وما عليه؛ ولأجل أن يقوم الأولاد بردّ الجميل للوالدين والبر بهما
في حياتهما، والدعاء لهما بعد موتهما، بخلاف مَن ترك ولده دون تأديب، فإنه لن يلتفت
إلى والديه؛ لأنهما قصَّرا في تربيته؛ فالجزاء من جنس العمل.
ضوابط التأديب
الضابط الأول: بلوغ الطفل عشر سنوات
تأديب الطفل بالضرب ليس بداية للتأديب، وإنما هو وسيلة من الوسائل، وهو آخِرُها،
كما أنه ليس غاية، وإنما هو وسيلة من وسائل التأديب عند بلوغه عشر سنوات. وإذا كان
لا بد من الضرب بعد استنفاد الوسائل التأديبية، فلا بد أن يكون ضربًا خفيفًا غير
مُبرح، لا يكسر عظمًا، ولا يجرح جلدًا، وألَّا يكون الضرب ممنوعًا؛ لما يترتب عليه
من آثار سيئة؛ ولأن الضرب المبرح يمثل داءً للطفل، فيجتمع داءان؛ ولذا فالامتناع عن
الضرب حينئذ يكون أولى لما يترتب عليه من أضرار بدنية ونفسية.
وإن كان ورد في الحديث:
«مروا
أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر، وفَرِّقوا
بينهم في المضاجع»[4]؛
ففي الحديث، ما يُفيد بضرب الأولاد عند بلوغهم عشر سنين إذا وقع منهم تقصير في أداء
الصلاة ضربًا خفيفًا يؤدي المقصود منه، وهو ضرب توجيه وتمرين،
«فالصبي
إذا بلغ عشر سنين أدرك وعقل، وبالتالي كان الوعيد والتأديب أدفع وأنفع، أما إذا كان
لا يعقل، فلا فائدة من ضربه، وإنما نُرغِّبه ونُلاعبه حتى يُميِّز»[5].
الضابط الثاني: التدرُّج في تقويم سلوك الطفل من الأخف إلى الأشد
التأديب للطفل يأتي بالتدرج، على حسب ما يناسب سنّ الولد وقدراته العقلية. والتدرج
هو الطريق الأمثل لمعالجة أخطاء الولد، فقد يستقيم الولد لمجرد الكلمة دون اللجوء
للضرب؛ فالضرب يُصْبح مُحرَّمًا إذا كان التأديب يأتي بدونه.
والتدرج في تقويم أخطاء الولد أشبه بالتدرج في علاج نشوز الزوجة، فقد قرَّر القرآن
في سبيل معالجة نفور الزوجة، ولكي تعود إلى رشدها، ثلاث طرق، وهي: الوعظ، والهجر،
والضرب. فلا نلجأ إلى الثانية إلا إذا لم تنفع الأولى، ولا نلجأ إلى الثالثة إلا
بعد الثانية. وهكذا نتدرج مع الأبناء حتى يعودوا إلى صوابهم.
المرحلة الأولى:
الوعظ، والوعظ دواء نافع في تأديب الولد، ومعناه أن نُرغِّبه ونُرهِّبه، ونناقشه،
ونعمل على إقناعه، ونتركه وقتًا لعله يُراجع نفسه، ويتوب ويعود إلى صوابه، وذلك بعد
أن نُذَكِّره بالآيات والأحاديث التي تحضّه على طاعة ربه، وطاعة والديه، وبما ستؤول
إليه الأمور في حالة عصيانه وتمرُّده، ثم يأتيه من ناحية مستقبله الدراسي. فإن لم
يَفِد الوعظ والتخويف، فلعله يكون في حاجة إلى دواء الهجر، فله أن يجمع بين دوائي
الوعظ والهجر.
المرحلة الثانية:
الهجر والحرمان مما يرغب فيه ويحبّه؛ وهو ألَّا يلتف إليه، ولا يُلبِّي طلبه،
ويُظْهِر عدم رضاه، فلعل الولد يُوازن بين اهتماماته ورغباته، وبين ما يفعله من
سلوك خاطئ، فيرجّح كفة اهتماماته ورضى والديه عما يقوم به من أخطاء، فيتراجع عنها،
ويعود إلى صوابه. وعندما يجتمع دواء التوجيه والإقناع في جانبه الروحي مع دواء
الهجر في جانبه الحسي يكون أشد وقعًا على الولد، فإن لم يُفْلح دواء الهجر، فإنه
يلجأ إلى الدواء الأخير وهو دواء الضرب الخفيف.
المرحلة الثالثة:
الضرب، وضربه يكون ضربًا خفيفًا غير مُبرّح، على قَدْر الحاجة والضرورة؛ فضرب الولد
غايته تهذيبه وإصلاحه، وإلا فتركه أولى إذا لم يحقق الفائدة منه.
الضابط الثالث: ألَّا يترتب على الضرب حصول مفسدة أعظم
على المُربّي أن يراعي ظروف ونفسية الولد، ويتتبع أحواله الاجتماعية والاقتصادية،
وعلى المعلم أن يكون أكثر إدراكًا في توجيه الوسائل التي بها يستقيم الولد، ويرجع
عن خطئه بالطرق والوسائل الترغيبية لا التنفيرية المستفزة، فإن رأى الضرب يترتب
عليه مفسدة أعظم، تَرَكَه، وتَعامَل مع الولد بالترغيب والتوجيه والوعظ المتمثل في
الثواب والعقاب؛ كأن يمنعه من الفسحة، أو الهدايا، أو اللعب، وما إلى ذلك مما يؤثر
في سلوك الولد، ويُقوِّم خطأه، مُدْرِكًا الآثار الوخيمة المترتبة على ضَرْبه ضربًا
مبرحًا، ومما يُصيبه بعُقَد نفسية تضرّ بحياته الدراسية، ومستقبله المهني.
الضابط الرابع: التأديب بالضرب المُكلّف به الأب دون أفراد العائلة، أو ممن له حق
الولاية والقاضي
مما يُوقِع الخلاف والنزاع بين أفراد العائلة أن يقوم بتأديب الولدِ غيرُ الأب،
فيما يتعلق بالأخلاق والقِيَم، فالأب له أن يُقوِّم سلوك الولد؛ فهو أقدر من غيره
على معالجة الانحرافات بالوسائل التي تناسب سن الولد وقدراته العقلية؛
«فمن
الخطأ أن يَضْرِب الصبيَ غيرُ أبويه، ويلحق بالأب الجدُّ والأم والوصي والقَيِّم من
جهة القاضي»[6].
وللمعلم أن يضرب الولد ضربًا خفيفًا هدفه ترغيب الولد في التحصيل الدراسي والتزامه
مكارم الأخلاق؛
«للمعلم
ضرب الصبي الذي يتعلم عنده للتأديب، وبتتبُّع عبارات الفقهاء يتبين فيها أنهم
يُقيِّدون حقّ المعلم في ضرب الصبي المتعلم بقيود؛ منها: أن يكون الضرب معتادًا
للتعليم كمًّا وكيفًا ومحلًا، يعلم المعلم الأمن منه، ويكون ضربه باليد لا بالعصا
ضربًا خفيفًا غير مُبرّح مما لا يُؤذي، متجنبًا الوجه والرأس، وغيرهما، مما يؤذي
المتعلم، وألّا يتجاوز فوق الثلاث ضربات، وأن يكون بإذن الولي، وأن يكون الصبي يعقل
التأديب، فليس للمعلم ضَرْب مَن لا يعقل»[7].
إن الإفراط في الضرب أو الإيذاء البدني سواء أكان بحسن نية، أو بغيرها؛ هو أسلوب
مرفوض من الناحية التربوية والأخلاقية؛ وذلك لأنه يؤدي بالضرورة إلى كراهية التلميذ
لمعلمه، وتنفيره من الحضور والمدرسة.
الضابط الخامس: أن يكون الضرب على ترك واجب أو فِعْل محرّم
فمثلًا الصلاة، لو لم تكن واجبة في حق الولد الذي لم يبلغ الحلم، إلا أن تأديب
الولد بالضرب لأجل الصلاة ضربًا خفيفًا يُحقّق المقصود دون أدنى ضرر واجب؛ حتى
يعتادها ويألفها عندما يُكلَّف، ويلحق بالصلاة كلّ واجب يعود بالنفع عليه في الدنيا
والآخرة. وكذا ضَرْبه لفعل محرم كأن يفعل شيئًا حرَّمه الشرع، وقد صح أن النبي صلى
الله عليه وسلم ما ضَرَب أحدًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا إلا أن تُنتهك
حرمات الله، ففي الحديث عن عائشة قالت:
«ما
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط، بيده ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن
يُجاهد في سبيل، وما نِيلَ منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من
محارم الله، فينتقم لله -عز وجل-»[8].
فعلى الأب ألّا يغفل عن أولاده طرفة عين -وعليه أن يجمعهم على البر والتقوى، وما
يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، نُصْحًا وتوجيهًا، ترغيبًا وترهيبًا-، أمرًا
ونهيًا، وبأن يكون قدوة طيبة لأهله وأولاده.
الضابط السادس: أن يتجنَّب ضرب المواضع المكرَّمة؛ كالوجه والرأس
على المربي أن يتجنَّب ضرب المواضع التي يُخْشَى عليها هلاك الصبي؛ فيَحْرُم
الضرب على الوجه والرأس، وما يكون سببًا في إتلاف الصبي، وتأخُّره دراسيًّا، وقد
جاء النهي عن الضرب على الوجه، ففي الحديث أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم :
ما حق المرأة على الزوج؟ قال:
«أن
يُطعمها إذا طعم، وأن يكسوها إذا اكتسى، ولا يَضرب الوجه، ولا يُقبِّح، ولا يَهْجُر
إلا في البيت»[9]،
فإذا كان النهي عن ضرب الوجه مُحرَّمًا في حق الزوجة، فهو أيضًا مُحرَّم في حق
الطفل الذي هو أضعف حالًا، وأقل إدراكًا.
الضابط السابع: ألا يضرب فوق ثلاث ضربات ضربًا خفيفًا غير مبرح
والضرب الخفيف غير المبرح يكون باليد، ولا يزيد عن ثلاث؛ لقول النبي صلى الله عليه
وسلم لمرداس المعلم:
«إياك
أن تَضْرب فوق ثلاث، فإنك إن ضربت فوق ثلاث اقتصَّ الله منك»[10]،
والظاهر أن الصبيان يتفاوتون في التأديب، فمنهم مَن تمنعه الموعظة، ومنهم مَن يمنعه
الحرمان من ثواب، كالتنزه، والفسحة، والهدايا، وما إلى ذلك مما يرغب فيه الطفل
ويُحبّه، ومنهم مَن تمنعه العقوبة من ضربة، وضربتين، وثلاث متفرقات.
إذن التأديب أمرٌ لا بد منه؛ لكي ينشأ الطفل نشأةً سوية؛ يكون قُرَّة عين
لوالديه نافعًا لنفسه ولأهله، ولا بد أن يُراعَى مبدأ التدرُّج في التأديب، فيُؤخَذ
من الأسهل إلى الأشد، وعلى حسب الداء يكون الدواء، وإن كان لا بد من الضرب، فيكون
ضربًا خفيفًا غير مُبرّح، مقصده تقويم ما اعوجَّ من سلوك.
كما يجب أن يُناقِش الطفل، ويُحاول إقناعه قبل اللجوء للضرب، فإذا كان الإقناع
والمناقشة أنفع، فالضرب حينئذ لا فائدة منه.
كما يجب أن يُراعَى سنّ الطفل وقواه العقلية والإدراكية، فما يَصْلُح به كان
تقويمه وعلاجه.
كما يجب أن يُفهم الطفل الغاية من الضرب، وهو إصلاحه والعمل على نجاحه، والحرص على
مستقبله؛ حتى لا يشبّ كارهًا لمُعلّمه ومربيه.
وعلى المربي أن يدرك الآثار والعواقب الوخيمة والمسؤولية القانونية المترتبة على
الضرب المبرح، والأهم من ذلك كله أن يكون الأبوان قدوة صالحة للأبناء؛ فإن الأبناء
أول ما تقع أعينهم تقليدًا ومحاكاةً؛ تقع على الوالدين، فإن كانا الوالدان قدوةً
صالحةً كان الأولاد كذلك، وإلا فلا. وبالله التوفيق.
[1] المعجم الوجيز، مادة أدب، ص9.
[2] روح المعاني، ج1، ص344.
[3] فتح القدير، ج5، ص345.
[4] أخرجه أبو داود في مسنده، ج1، حديث رقم (495)، ص133.
[5] قال الكاساني: والصبي يُعزَّر بطريق التأديب والتهذيب لا بطريق العقوبة؛ لأنها
تستدعي الجناية. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج7، ص64.
[6] حاشية ابن عابدين، ج4، ص78.
[7] د. لطيفة حسين الكندري، تأديب الطفل باللطف لا بالعنف، الطبعة الأولى، 1432ه-
2011م، ص81.
[8] أخرجه مسلم، ج4، كتاب الفضائل، باب مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام،
واختياره من المباح، أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، حديث رقم (2328)،
ص1814.
[9] أخرجه ابن ماجه، ج1، حديث رقم (1850)، ص593.
[10] ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار، ج1، ص235.